قضيّة جورج إبراهيم عبد الله
في الحادي والثلاثين من شهر آذار/مارس ١٩٨٢، بينما كان الكيان الصهيوني مستمراً بتوسيع رقعة تدخّلاته في الحرب الأهلية اللبنانية، لاسيما عبر توظيف الفصائل الفاشية المسلّحة لتحارب بالوكالة عن الكيان ولتخدم مصالحه. قتل يعقوب بارسيمنتوف، وهو السكرتير الثاني للسفارة الصهيونية في باريس ومدير الموساد في فرنسا، على يد 'امرأة ذات قبّعة بيضاء' مجهولة الهوية. وقد تمّ تبنّي هذا العمل المقاوم من قبل الفصائل الثورية المسلّحة اللبنانية، وهي مجموعة ماركسية داعمة للثورة الفلسطينية. على الرغم من صدور حكم غيابي بحقّها، إضافة إلى مذكّرة توقيف من الأنتربول، إلى جانب ملاحقتها من قبل الموساد والاستخبارات المركزية الأمريكية إضافة إلى أجهزة الاستخبارات الفرنسية واللبنانية، لم تكشف هوية المرأة التي صفّت بارسيمنتوف طيلة حياتها. بقيت مجهولة حتّى توفّيت بعدها بعقود، وذلك يوم السابع والعشرين من شهر تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠١٦، حتّى أصدرت الفصائل الثورية المسلّحة اللبنانية بياناً احتفت فيه بالحياة الكفاحية التي قادتها جاكلين إسبر، أو 'الرفيقة ريما'، كما كان يطلق عليها – المرأة ذات القبّعة البيضاء التي قتلت بارسيمنتوف كما نفّذت عدّة عمليات مسلّحة استهدفت مصالح أمريكية وصهيونية في قلب الدول الإمبريالية. في ٢٤ تشرين الأول/أكتوبر ١٩٨٤، أي بعد أكثر من عامين ونصف على مقتل بارسيمنتوف، اعتقلت الشرطة الفرنسية المواطن اللبناني جورج عبدالله في مدينة ليون. مع أنّه كان قد اعتقل بتهمة حيازة أوراق ثبوتية مزوّرة في بادئ الأمر، إلّا أنّ جورج عبدالله ما يزال معتقلاً في السجون الفرنسية حتّى اليوم، وقد اتّهم بالاشتراك في مقتل بارسيمنتوف وأدين بسبب دوره مع الفصائل الثورية المسلّحة اللبنانية. اليوم، يعدّ عبدالله أقدم السجناء السياسيين في أوروبا.
اليوم، وبعد قرابة ٤١ سنة خلف القضبان، عبدالله أقرب ما يكون لنيل حرّيته أخيراً. في الخامس عشر من تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠٢٤، أصدرت محكمة تنفيذ الأحكام الفرنسية قراراً بالإفراج المشروط عن جورج عبدالله شرط مغادرته الأراضي الفرنسية. لكن كما هو متوقّع، استأنفت النيابة العامة هذا القرار، وسيصدر القرار النهائي عن محكمة الاستئناف الفرنسية في العشرين من شهر شباط/فبراير ٢٠٢٥، لتحدّد مصير عبدالله.
منذ أواخر كانون الأول/ديسمبر، تحشد "الحملة الموحّدة لتحرير جورج إبراهيم عبد الله - CUPLGIA“ كامل قواها للضغط على الدولة الفرنسية ومؤسساتها من أجل إطلاق سراح عبدالله، على أساس أنه سجين سياسي وأنّ إبقاءه في السجن ليس نتيجة حكم قضائي، بل نتيجة قرار سياسي صادر عن أعلى مستويات الدولة الفرنسية. فضلاً عن التدخّل المباشر من كلّ من الولايات المتّحدة و'إسرائيل'. كما أطلقت الحملة دعوات دولية لتنظيم احتجاجات واعتصامات للمطالبة بالإفراج عن أقدم سجين سياسي في أوروبا.
في المقال التالي، سنروي قصّة جورج إبراهيم عبد الله، المناضل الماركسي المقاوم الذي كرّس حياته بإيثار وضحّى بحريته لنصرة القضية الفلسطينية. سنبحث في العوامل التي جعلت عبد الله ثوريًا راديكاليًا ودفعته إلى الانخراط في النضال من أجل تحرير فلسطين، وما يعنيه تحرره بالنسبة لليسار المناهض للإمبريالية، كما سنبحث في فكره السياسي. سوف يستند هذا المقال إلى رسائل كتبها جورج عبد الله نفسه، وإلى كتاب ”قضية جورج إبراهيم عبد الله“ (L'affaire L'affaire Georges Ibrahim Abdallah)، الذي ألّفه الماركسي الجزائري سعيد بوعمامة، وهو كتاب نحن في شبكة الإعلام الفدائي بصدد ترجمته للعربية والإنجليزية.
السياق التاريخي
وُلد جورج إبراهيم عبد الله في ٢ نيسان/أبريل ١٩٥١ في قرية القبيات في عكار، أقصى شمال لبنان وأكثر أقضية لبنان فقراً. كان جزءًا من جيل عربي تشكّل وعيه السياسي بعد نكسة عام ١٩٦٧، وهي الهزيمة العربية في الحرب غير المبرّرة التي شنّها الكيان الصهيوني على أربع دول عربية بموافقة أمريكية مسبقة. وضعت هذه الهزيمة حدًا لأي آمال في تحرير فلسطين من خلال الحرب التقليدية التي تشنّها الجيوش النظامية، ومهّدت الطريق لظهور حرب العصابات الشعبية المستوحاة من النموذجين الفيتنامي والجزائري. وسمح ذلك أيضًا للفلسطينيين باستعادة السيطرة على مصائرهم، بعد أن احتكرت جامعة الدول العربية القضية الفلسطينية وتحوّلت إلى ورقة ضغط سياسية لدى بعض الأنظمة العربية. انخرط عبد الله في العمل السياسي بعد النكسة بفترة وجيزة، حيث انضمّ إلى الحزب القومي السوري الاجتماعي وهو في سن الـ١٦ عامًا. نقلت فصائل الثورة الفلسطينية قواعد عملياتها إلى لبنان عام ١٩٧٠ بعد أحداث ”أيلول الأسود“ - الحرب التي شنّها النظام الملكي الأردني الكومبرادوري ضدّها. هذا جعل لبنان وعاصمته بيروت مركز النشاط السياسي الثوري في العالم العربي. ولكن في مقابل النشاط الثوري المتزايد في البلاد، شنّت البرجوازية اللبنانية المدعومة من الإمبريالية العالمية والاستعمار الاستيطاني الصهيوني هجوماً عنيفاً للحفاظ على امتيازاتها الطبقية. استهدف هذا الهجوم جميع العناصر التقدّمية في البلاد، وفي طليعتها فصائل الثورة الفلسطينية، ممّا أدّى إلى اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية.
تُصوَّر الحرب الأهلية اللبنانية اليوم على نطاق واسع على أنّها حرب دينية بين المسيحيين والمسلمين. هذه هي الرواية التي تقدّمها القوى الرجعية التي توظّف التوتّرات الطائفية كسلاح لتعبئة أتباعها. وقد شاركتها في ذلك أيضًا شريحة صغيرة من القوى التقدّمية التي فسرت الصراع الطبقي بشكل خاطئ من منظور طائفي وهوياتي، مما خلق مفهوم ”الطائفة-الطبقة“. وقد رفض الماركسيون اللبنانيون هذا المفهوم باستمرار، أوّلهم الراحل مهدي عامل. خلال هذه السنوات، انغمس جورج عبد الله في دراسة النظرية الثورية. وبحلول أوائل السبعينات، كان قد أصبح ماركسيًا، وبات يستخدم الجدلية المادّية كأداة تحليلية.
يقول روبير عبد الله، شقيق جورج، وهو أكاديمي ماركسي وعضو في الحزب الشيوعي اللبناني، عن أخيه:
"جورج بدأ حياته العملية مدرّساً لدى وزارة التربية في منطقة نائية جداً في لبنان، في منطقة أكروم، وهناك بدأ إحساسه الطبقي يتبلور بحكم ما تعانيه تلك المنطقة من حرمان مطلق. منطقة محرومة يمكننا القول من كل شي، لا طرقات، لا مياه، لا كهرباء بطبيعة الحال. حتى المدرسة بحد ذاتها كانت عبارة عن مجرد غرفتين في منزل. وبالتالي يمكننا القول أنّ أوّل مجابهة مع حياته الوظيفية شكّلت منطلقاً لبدء مساره النضالي."
من خلال وعيه السياسي وتجربته الحياتية، استطاع جورج، وهو مسيحي ماروني، أن يتجاوز التفسيرات الطائفية والهوياتية للحرب اللبنانية. وقد قاده تحليله المادي إلى استنتاج أن الإمبريالية العالمية ووكيلها الإقليمي: الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، يمثّلان التناقض الأساسي الذي يجب محاربته. في عام ١٩٧١، انضمّ إلى صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الفصيل الفلسطيني الماركسي-اللينيني الأوّل. شارك في القتال على جبهات متعدّدة، حتّى أنّه أصيب في القتال في جنوب لبنان أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبلاد عام ١٩٧٨.
لقد وصف محمد سليمان، وهو لاجئ فلسطيني من مخيّم نهر البارد في شمال لبنان وعضو في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الفترة التي قضاها عبد الله مع الجبهة:
"جورج عبدالله كان مناضلاً لنصرة القضية الفلسطينية. لقد عاش معنا في المخيّم، على الظروف الصعبة، علمًا إنّه هو كان من الناس اللي ممكن يعيشو برفاهية، حياة كتير مريحة. إلّا إنّه فضّل نتيجة قناعاته، يعيش الأزمة والمأساة الفلسطينية تحديداً. وما كنّا نميزه، كان يشارك، تكلفه الجبهة الشعبية بقضايا عمل مشترك مع الفصائل الأخرى، وكان يمثّل الجبهة الشعبية داخل المخيّم وكأنّه عضو فلسطيني من هالبيئة تمامًا."
في عام ١٩٨١، عندما كانت منظّمة التحرير الفلسطينية بصدد التوصّل إلى اتّفاق بوساطة أمريكية للانسحاب من لبنان، أبى عبد الله التخلّي عن الكفاح المسلّح. سنة ١٩٧٩، كان قد شارك جورج عبد الله مع رفاق آخرين في تأسيس الفصائل المسلّحة الثورية اللبنانية، بهدف خوض الكفاح المسلّح من داخل العمق الإمبريالي، مجسّدين بذلك مفهوم وديع حداد 'وراء العدو في كل مكان.' هذه الرغبة في خوض الكفاح ضد الإمبريالية من داخل الدول الإمبريالية أكّدها عبد الله نفسه في تصريح له خلال إحدى محاكماته:
”على الرغم من معاناة شعوب العالم كلها، فإنّ قادتكم يفرضون سلام وقانونية نظامهم المجرم، الذي تشكّل الحرب جزءاً لا يتجزّأ منه؛ ولكنّكم مخطئون إذا كنتم تأملون ألّا تتجاوز الحرب مرّة أخرى مناطق الأطراف.“
خلال أوائل الثمانينيات، نفّذت الفصائل المسلّحة الثورية اللبنانية بنجاح ٨ عمليات مسلّحة على الأراضي الأوروبية، معظمها في فرنسا. كان أهمّها اغتيال عميل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية ومساعد الملحق العسكري في السفارة الأمريكية في باريس، شارل راي في كانون الثاني/يناير ١٩٨٢، واغتيال السكرتير الثاني للسفارة الإسرائيلية في باريس، الذي كان يشغل أيضًا منصب رئيس الموساد في فرنسا، يعقوب بارسيمانتوف في آذار/مارس من العام نفسه. وأعقب ذلك محاولة الاغتيال الفاشلة للقنصل الأمريكي العام في ستراسبورغ بفرنسا، روبيرت هوم، في آذار/مارس ١٩٨٤. وانتهى الأمر باتّهام جورج عبد الله بالتواطؤ في العمليات الثلاث، وصوّرته الدولة الفرنسية ووسائل الإعلام الفرنسية على نطاق واسع على أنه ”إرهابي“. وفي البيان الذي أصدرته الفصائل المسلّحة الثورية اللبنانية في ٣ نيسان/أبريل ١٩٨٢، والذي أعلنت فيه رسميًا مسؤوليتها عن اغتيال بارسيمانتوف، سعت الجبهة إلى تفكيك رواية ”الحرب على الإرهاب“ هذه بالقول:
”من هم الإرهابيون؟ هم أولئك الذين يقتلون شاباً من الضفة الغربية لمقاومته احتلال إسرائيل لبلاده، أولئك الذين يقصفون السكّان المدنيين في جنوب لبنان، أولئك الذين يقتلون بشكل أعمى ومع ذلك يتجرّأون على الاختباء وراء ”وقف إطلاق النار“ المفترض...“.
في كتابه ”قضية جورج إبراهيم عبد الله“، يعيد سعيد بوعمامة صياغة هذه الأحداث. ويذكّرنا بشكل بأنّ هذه الرغبة في نقل الكفاح المسلح إلى البلدان الإمبريالية سبقتها فترة قامت خلالها إسرائيل وأجهزة مخابراتها بشنّ حملة تطهير على ممثّلي منظّمة التحرير الفلسطينية في الخارج، دون أي محاسبة من البلدان المضيفة. وشملت هذه الموجات من الاغتيالات اغتيال ممثّلي منظمة التحرير الفلسطينية في إيطاليا وفرنسا، وائل زعيتر ومحمود الهمشري في عام ١٩٧٢، وكذلك اغتيال ممثّل منظمة التحرير الفلسطينية في قبرص حسين بشير أبو الخير في عام ١٩٧٣، إلى جانب اغتيال القيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في فرنسا باسل الكبيسي، والمناضل الجزائري الداعم لفلسطين محمد بودية.
اعتقال جورج إبراهيم عبد الله
في صيف عام ١٩٨٤، وُضع جورج عبد الله تحت مراقبة المديرية العامة للأمن الداخلي. وذلك بعد أن أبلغت السلطات الإيطالية أجهزة الاستخبارات الفرنسية بوجود امرأة لبنانية مقيمة في فرنسا تدعى فريال ضاهر كانت ترافق عبد الله المنصوري الذي تمّ القبض عليه على الحدود الإيطالية مع يوغوسلافيا وهو يحمل ٦ كيلوغرامات من المتفجّرات. ثم تمّ توجيههم لمراقبة عبد الله بسبب لقاءاته ومراسلاته المتكررة مع ضاهر. وفي نهاية المطاف، ألقي القبض على عبد الله في ٢٤ تشرين الأوّل/أكتوبر ١٩٨٤ في مدينة ليون في جنوب فرنسا، بعد أن قدّم جواز سفر جزائري مزوّر، باسم عبد القادر السعدي. وبعد مداهمة منزله، عثرت الشرطة الفرنسية على وثائق هوية مزوّرة أخرى وأسلحة. وهكذا حُكم عليه في البداية في عام ١٩٨٤ بالسجن لمدّة أربع سنوات بتهمة حيازة وثائق هوية مزوّرة والتآمر وحيازة أسلحة ومتفجرات. لكن ما حدث بعد ذلك لم يكن سوى مؤامرة قادتها السلطات الفرنسية بالاشتراك مع وسائل الإعلام الفرنسية والدولية الكبرى لإبقاء عبد الله في السجن.
حملة التشهير الإعلامي
يصف إيف بونيه، مدير الأمن الداخلي الفرنسي آنذاك، الأحداث التي تلت اعتقال عبد الله على النحو التالي:
”في الواقع، عندما اعتقلناه لم نكن نعرف من هو. ولكن عندما كان محتجزًا لدى الشرطة، أطلق تهديدات وادّعى أنه عضو في جهاز الأمن التابع لمنظّمة التحرير الفلسطينية. لسوء حظه أنّني أحظى بعلاقة ودّية مع أبو إياد، الرجل الثاني في منظّمة التحرير الفلسطينية، كما أنّني تواصلت مع الإسرائيليين من جهة أخرى. في تلك المرحلة، تمكّننا من تأكيد أنّه قائد الفصائل المسلّحة الثورية اللبنانية، وهي مجموعة ماركسية داعمة لفلسطين، ومسؤولة عن ارتكاب هجمات وقتل ثلاثة أشخاص في فرنسا. لكن لم يكن لدينا أي أدلّة كافية لإدانته. كانت مجرّد قضية هوية مزوّرة وحيازة أسلحة ومتفجّرات. (...) حتّى ذلك الحين، كان جورج إبراهيم عبد الله متّهمًا بجنح، ولم تكن هناك تهم جنائية ضدّه“.
وبمجرّد إلقاء القبض على عبد الله، شنّت وسائل الإعلام الكبرى حملة شيطنة ممنهجة ضدّه، ممّا حوله إلى العدوّ الأوّل لدى الرأي العامّ في فرنسا. وسرعان ما وُصِفَ عبد الله بـ”الإرهابي“، وركّزت الحملات الإعلامية على نزع الطابع السياسي عن أفعال عبد الله وعزلها عن سياقها، وتصويرها على أنّها غير مبررة أخلاقياً. كما تجدر الإشارة إلى أنّه كان هناك تدخّل أمريكي غير مسبوق في الجهاز القضائي الفرنسي.
ويروي جاك عتالي، مستشار الرئيس الفرنسي آنذاك فرانسوا ميتيران، عن مستشار رونالد ريغان للشؤون الأمنية، جون بوينتديكستر، أنّه أرسل برقية إلى ميتيراند قبل أيام من جلسة الاستماع الأولى لعبد الله في ١٠ تمّوز/يوليو ١٩٨٦. وفي هذه البرقية، حثّ بوينتدكستر الرئيس الفرنسي على منع إطلاق سراح عبد الله قبل محاكمته، وذكّره بأنّ الولايات المتحدة ستشارك رسمياً في المحاكمة بصفتها مدعياً. وفي ١١ تمّوز/يوليو، انتهك المسؤولون الأميركيون السيادة الفرنسية مرّة أخرى عندما صرّح المتحدّث باسم السفارة الأميركية في فرنسا عن ”صدمته بسبب 'خفّة' الحكم“، مضيفاً:
”نأمل أن يقضي عبد الله - الذي لا يخفي نواياه العنيفة تجاه الأمريكيين والمنتمي إلى جماعة قتلت أو حاولت قتل العديد من الدبلوماسيين الأمريكيين - كامل مدّة العقوبة“.
وردّاً على ذلك، رفض جورج عبد الله في جلسة محاكمته في ٢٣ شباط/فبراير ١٩٨٧، الدفاع عن نفسه، واختار بدلاً من ذلك الدفاع عن القضية التي يناضل من أجلها، محوّلاً الجلسة إلى منبر سياسي للتعبير عن موقفه. وبذلك، يعيد عبد الله صياغة أفعاله ويؤكّد على أنّه سجين سياسي، رافضًا في الوقت نفسه شرعية المحكمة التي تحاكمه:
”أن تتمّ محاكمة مقاتل عربي من قبل محكمة خاصّة في الغرب، فهذا أمر طبيعي للغاية. أمّا أن يوصف بالمجرم والجاني، فلا جديد في ذلك. فـ”قطّاع طرق الأوراس“ و”إرهابيو فلسطين“ و”متطرّفو الأنصار والخيام“ كلّهم نعتوا بهذه الأوصاف المشرفة. تذكّر هذه الأوصاف كلّ ذوي الذاكرة القصيرة بإرث عدالتكم الغربية وحضارتكم اليهودية-المسيحية. أمّا أن يكون المجرم الأمريكي، جلّاد المحرومين حول العالم، مدّعياً وممثّلاً عن الضحايا المزعومين، فلا داعي للإدلاء بأي تعليق على طبيعة محكمتكم والمهمّة الموكلة إليها. [...]
كم هو وقح ممثّل المجرم ريغان ليأتي ويقدّم نفسه كضحية وكمدّعٍ في باريس، بينما تستعدّ البحرية الأمريكية لشنّ عدوان على بيروت وغيرها من المدن العربية؟ على المرء أن يكون له شيء من القرابة مع غوبلز ليتمكّن من تمرير هذا المشهد! ومن غير المحافل الإمبريالية الغربية لتكون مرتعاً لمزبلة التاريخ هذه ولهذه القرابة المشينة“.
من وجهة نظر قانونية، لم يكن هناك دليل يؤكّد تورّط عبد الله المباشر في الاغتيالات. لم تتمكّن السلطات الفرنسية من العثور سوى على بصمات أصابع عبد الله على زجاجة سائل مصحّح داخل الحقيبة التي كانت تحتوي على الأسلحة. كما تمّ العثور على صحيفة يعود تاريخها إلى اليوم التالي لاعتقال عبد الله في تلك الحقيبة، مما يثبت أنّه تمّ التلاعب ببعض الأدلّة.
وقد بذلت وسائل الإعلام الفرنسية كلّ ما في وسعها لتصوير قضية عبد الله على أنّها تندرج تحت مكافحة الإرهاب. وحدث ذلك أيضًا في نفس الفترة الزمنية التي شهدت فيها شوارع باريس خلال سنتي ١٩٨٥ و١٩٨٦، ١٣ هجومًا بالقنابل، ممّا أسفر عن مقتل وجرح عشرات المدنيين. ومع تزايد السخط الشعبي وعدم وجود أي خيوط تكشف عن أي مشتبهين بهم، قامت السلطات الفرنسية، إلى جانب وسائل إعلامية، بنسب هذه الهجمات إلى الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية وربطها بجورج عبد الله من أجل تصنيع الإذعان على إبقائه في السجن. لم يكن لهذه الاتّهامات أي أساس من الصحّة على الإطلاق، وتتعارض هذه التفجيرات مع استراتيجية الفصائل المسلّحة الثورية اللبنانية في تنفيذ عمليات دقيقة مستهدفة:
"نحن نهاجم الذين ينظّمون الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني. نحن مستعدّون للمخاطرة بسلامتنا الخاصّة مقابل الحفاظ على سلامة الأبرياء."
وقد تبنت هذه الهجمات لاحقًا ”لجنة التضامن مع السجناء السياسيين العرب والشرق أوسطيين“، وهي مجموعة مرتبطة بإيران، وكانت هذه الهجمات تهدف إلى عكس الموقف الفرنسي الداعم للغزو العراقي لإيران. اعتُقل زعيم المجموعة، التونسي فؤاد علي صالح، في عام ١٩٨٧. وعلى الرغم من أنّ المجموعة لم تكن لها أي صلة بعبدالله أو بالفصائل المسلّحة الثورية اللبنانية، إلّا أن الضرر كان قد وقع بالفعل. حيث كانت قد ذهبت وسائل الإعلام الفرنسية إلى حدّ التحريض على نظريات مؤامرة لا أساس لها من الصحة تمامًا تربط شقيقي جورج عبد الله، روبير وإيميل، بالهجمات، على الرغم من أنهما لم تطأ أقدامهما فرنسا منذ سنوات في تلك المرحلة. وأقرّ الوزير الملحق بوزير العدل الفرنسي آنذاك، روبير باندراو، في وقت لاحق بعدم وجود أي دليل فعلي لإدانة عبد الله. بعد سنوات عديدة من صدور الحكم على عبد الله، صرح باندراو بالقول:
”لقد اتّبعنا فرضية تورّط الفصائل المسلّحة الثورية اللبنانية (فيما يتعلّق بسلسلة التفجيرات الثلاثة عشر التي ضربت باريس) استنادًا إلى شهادات الشهود الأوائل، رغم أنّنا كنا ندرك أنّه بالنسبة للفرنسيين الذين اعتقدوا أنهم رأوا الإخوة عبدالله في مواقع الهجمات، فإنّ جميع الملتحين الشرق أوسطيين يشبهون بعضهم البعض. مصادرنا، ومعظمها جزائرية، أكّدت لنا أن عائلة عبد الله لا علاقة لها بهذه الاعتداءات، لكن دون أن يقدّموا لنا أي دليل. قلت في قرارة نفسي إنّ الترويج للفرضية التي تنسب هذه الهجمات إلى الإخوة عبد الله لن يضرّ، حتى وإن لم يكن له أي فائدة. في الواقع، لم يكن لدينا أي أدلة في ذلك الوقت“.
إن موازين القوى في ذلك الوقت، مع حملات الشيطنة المستمرّة والتدخّلات السياسية المستمرّة بما في ذلك التدخّل الأمريكي، جعل نتيجة المحاكمة حتمية. في ٢٨ شباط/فبراير ١٩٨٧، حُكم على جورج إبراهيم عبد الله بالسجن مدى الحياة. وقد أجمعت جميع وسائل الإعلام الفرنسية وكذلك الأحزاب السياسية الفرنسية على الاحتفاء بهذا القرار. وشمل ذلك الأحزاب اليمينية النازية المتطرفة مثل ”الجبهة الوطنية“ بزعامة جان ماري لوبان وكذلك ”الحزب الاشتراكي“ بقيادة شارل هرنو في ذلك الوقت. وكان الحزب الشيوعي الفرنسي هو الحزب الوحيد الذي شذّ عن القاعدة، حيث استنكر هذه التمثيلية على حقيقتها، واصفًا إياها بـ ”محاكمة ساخرة“.
حتى أنّ وزارة الخارجية الأمريكية أعلنت رسميًا رضاها عن الحكم. وكان عبد الله نفسه على دراية تامّة بالضغوطات التي مارستها الولايات المتحدة على الجهاز القضائي الفرنسي لإصدار أقصى عقوبة عليه. وقد ندد جورج بالتدخل الأمريكي منذ عام ١٩٨٧:
”إنني أعلم جيدًا أنّه ينبغي عليكم تجريم هذا الموقف (الحق في المقاومة)، وقد نادت إليكم إدارة ريغان وأملت عليكم القيام بهذه المهمّة. وبكل ”استقلالية“ و”حيادية“، لقد أطعتم هذا النداء.“
خرق صفقة تبادل الأسرى
في ٢٤ آذار / مارس ١٩٨٥، اختطفت الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية المدعوّ جيل سيدني بيرول، مدير المركز الثقافي الفرنسي في طرابلس بشمال لبنان. هدفت الفصائل من اختطاف بيرول إلى التوصّل إلى صفقة تبادل أسرى لتحرير جورج عبد الله. وسرعان ما بدأت المفاوضات بين الفرنسيين والفصائل، بينما لعبت الدولة الجزائرية دور الوساطة. وعلى الرغم من التوصّل في نهاية المطاف إلى اتفاق لتبادل الأسيرين، إلّا أنّ السلطات الفرنسية أخلت بالصفقة بعد أن أطلقت الفصائل سراح بيرول في الليلة بين الأول والثاني من نيسان/أبريل كما هو متّفق عليه. جاء ذلك بعد اكتشاف المحقّقين الفرنسيين في اللحظة الأخيرة ”بالصدفة“ لمنزل آمن كان يستخدمه جورج عبد الله في السابق يحتوي على أسلحة، بما في ذلك مسدس كان مرتبطًا باغتيال شارل راي وياكوف بارسيمانتوف. وقد أدّى ذلك إلى تفاقم قضية عبد الله الذي كان حتّى ذلك الحين متّهمًا بجنح فقط. وسرعان ما تسرّب خبر هذا الاكتشاف إلى الصحافة الفرنسية، ولا سيما في صحيفة ”لوموند“. واتّضح فيما بعد أن هذا التسريب كان مدبّراً من قبل وزارة الداخلية الفرنسية والمديرية العامة للشرطة الوطنية. وقد ساعد هذا التسريب أيضًا على ربط عبد الله والفصائل المسلّحة الثورية اللبنانية بموجة التفجيرات المذكورة سابقًا.
وقد كشفت صحيفة ”لو نوفيل أوبسرفاتور“ الفرنسية في وقت لاحق أنّ هذا المنزل الآمن كان قد تمّ اكتشافه بالفعل من قبل السلطات الفرنسية قبل أشهر، وأنّ التسريب تمّ توقيته بشكل استراتيجي ليشكّل ذريعة لعدم إطلاق سراح عبد الله وخرق الصفقة من قبل الدولة الفرنسية.
ما أعقب ذلك كان هجومًا قمعيًا على الطريقة المكارثية استهدف الماركسيين العرب والنشطاء المناهضين للإمبريالية في فرنسا، وشهد اعتقال أكاديميين وباحثين وصحفيين. وساهمت وسائل الإعلام من مختلف الأطياف السياسية في إضفاء الشرعية على هذه الحملة الرجعية. أحد هؤلاء الصحفيين المأجورين كان إدوي بلينيل، أحد مؤسّسي صحيفة 'ميديابارت' الذي كان آنذاك صحفياً في جريدة لوموند. واليوم، يعدّ بلينيل مؤيّداً ”لليسار الصهيوني“ وداعماً لما يسمّى بـ ”حق إسرائيل في الوجود“. يحظى بلينيل بالإشادة على نطاق واسع باعتباره رمزاً للصحافة البديلة والاستقصائية الفرنسية، ويحظى بالإشادة لتحديه المزعوم لوسائل الإعلام التقليدية. وبعيدًا عن هذه الصورة الوهمية التي صنعها لنفسه بعناية على مرّ السنين، خدم بلينيل جهود السلطات الفرنسية الرجعية من خلال نشر اتهامات لا أساس لها من الصحّة ضدّ جورج عبد الله وأفراد عائلته. في عام ١٩٨٦، كتب بلينيل:
”أفادت التقارير أنّ الشرطة تعرّفت على الرجال الذين يقفون وراء تفجيرات شارع رين. [...] والمتّهمان هما إميل عبد الله وإميل خوري، وهما عضوان في الفصائل المسلّحة الثورية اللبنانية وهما مطلوبان منذ عام ١٩٨٥. [...] هذه الخيوط لم تتغير، فقد أعيد تفعيل الشبكة الإرهابية التي أنشأتها الفصائل المسلّحة الثورية اللبنانية من عام ١٩٨١ إلى عام ١٩٨٤، تحت اسم اللجنة للتضامن مع المساجين السياسيين العرب والشرق أوسطيين“.
كل هذا سيثبت فيما بعد أنه غير صحيح.
المحامي المتواطئ
لربما مثّل جان بول مازورييه أكبر فضيحة تخلّلتها محاكمة جورج عبد الله الاستعراضية. سيكشف مازورييه، وهو أحد محاميي عبد الله، في ٦ آذار/مارس ١٩٨٧، أي بعد أقلّ من أسبوع على صدور الحكم، أنّه كان عميلاً للمديرية العامة للأمن الخارجي الفرنسية. وفي الفترة الممتدة من ١٩٨٤ إلى ١٩٨٦، كان المحامي المحتال يتقاضى راتباً غير مصرّح به من قبل المديرية العامة للأمن الخارجي لاستخراج معلومات من موكله، في انتهاك واضح لأخلاقيات المهنة، وفي خرق للسرّية بين المحامي وموكله. وعلى الرغم من نشاط مازورييه التجسّسي، لم تجمع المديرية العامة للأمن الخارجي أي دليل إضافي من خلاله، وهو دليل آخر على التزام عبد الله بعدم إفشاء أي معلومات من شأنها أن تعرّض رفاقه أو منظّمته للخطر.
ولم يقرّر مازورييه الخروج عن صمته إلّا عندما اكتشف أنّ نشاطه التجسّسي على وشك أن يتسرّب إلى الصحافة، دون أن يفوّت فرصة الترويج لكتابه ”العميل الأسود: جاسوس في قضية عبد الله“ (L'agent Noir: Une Taupe dans l'Affaire Abdallah). لم يمثّل هذا الكتاب سوى محاولة بائسة من مازورييه لحفظ ماء الوجه قبل أن يتم شطبه من نقابة المحامين. وعلى الرغم من هذه الاكتشافات، رفض وزير العدل ألبين شالاندون طلب محامي عبد الله جاك فيرجيز بإعادة المحاكمة.
كان كتاب مازورييه في طور الإنتاج بالفعل أثناء محاكمة عبد الله. وقد شارك في تأليف الكتاب صحفي من صحيفة ليبراسيون وعلى الرغم من ذلك، لم يتم تسريب أي خبر عن كون مازورييه عميلًا للمخابرات إلى الصحافة طوال فترة المحاكمة. هذا دليل صارخ على نفاق الصحيفة هذه بالذات، التي كانت قد شاركت في حملات الشيطنة التي استهدفت الأخوان عبد الله.
وفي الآونة الأخيرة، شاركت صحيفة ”ليبراسيون“، التي يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها صحيفة ذات ميول يسارية، في الجهود الدعائية الرامية إلى تشريع وتبرير الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة. حتّى أنّ رئيس التحرير الحالي للصحيفة هو دوف ألفون، وهو دعائي صهيوني وجندي سابق في جيش الاحتلال خدم في الوحدة ٨٢٠٠ الاستخباراتية.
النضال مستمر
من داخل زنزانته في السجن، ظل عبد الله يواكب النضالات الاجتماعية والسياسية في جميع أنحاء العالم. وبعد ما يقرب من ٤١ عامًا خلف القضبان، يواصل قراءة الأخبار وتحليل الأحداث السياسية بانتظام. وباعتباره ماركسيًا لينينيًا، فقد أدرك أنّ الإجراءات الرجعية المتطرّفة كانت تعبيرًا عن الأزمات العامة التي ولّدتها الرأسمالية. يكتب عبدالله:
”نعلم جميعًا مدى أهمية الفترة الحالية. فالأزمة العامة للنظام مستمرة في التعمّق، والبرجوازية تطرح صيغها الرجعية المتطرّفة على الدوام. إنها تضحي بمجرد بقاء نصف البشرية على قيد الحياة من أجل أرباحها. ترتفع الرجعية أحيانًا في الخفاء، ولكنها ترتفع أكثر فأكثر في العلن، خاصّة عندما تكون عملية التحوّل نحو الفاشية سارية وبقوّة. تستعرض النزعات المحافظة بينما يتفاقم التمييز الاجتماعي والعنصري. لا يمرّ شهر واحد دون أن نرى دولة أوروبية تعلن عن تطبيق قانون أمني أو مراسيم تتعلّق بمعايير اجتماعية أكثر تقييدًا أو إنشاء فرق خاصّة ومشاركتها في التدخّل ضدّ أحد الشعوب المضطهدة. في جميع أنحاء القارّة، أصبحت الأحزاب التي كانت في السابق تتبنّى الفاشية أحزابًا مؤسّساتية تدّعي استرجاع عذرية مفقودة وتشارك في الحكومات الجديدة التي يتمّ تشكيلها“.
هذا التصريح لجورج عبد الله وإن كان قد كتبه منذ عشرين عاماً، إلّا أنه يصلح تماماً لتشخيص الوضع الحالي في الغرب، وخاصّة في أوروبا، مع تصاعد شعبية الحركات الفاشية في السنوات الأخيرة بشكل سريع، حيث سقطت العديد من الدول الأوروبية بالفعل في قبضة الفاشية. يستغلّ دعاة الفاشية والليبراليون البرجوازيون المتساهلون معهم، الأزمات الاقتصادية الدورية للتحريض ضد من يطلق عليهم ”الأقليات“ على أسس هوياتية. واتّباعًا لنهج التعاون الطبقي، يحوّل الفاشيون وحلفاؤهم السخط الشعبي بعيدًا عن لوم المضطهدين الفعليين - الطبقة الرأسمالية، ليتّخذوا بدلاً عنها من يعتبرون أنّهم ينتمون إلى ”الأقليات الجنسية والجندرية“ و”الأقليات الدينية“ والشيوعيين، وقبل كلّ شيء، العمّال الأجانب. وفي هذا الصدد، يقول عبد الله:
”في هذا الجو المتعسكر، كيف يمكن أن نستغرب من رؤية الحنين المتمحور حول ’الزمن المبارك‘ للمستعمرات؟ يقوم الليبراليون الجدد بتدمير شامل لقانون العمل، وكذلك حقوق السكن والتعليم... إنّ التقدّم الذي تم تحقيقه عبر أجيال متعدّدة من العمال يتمّ اليوم جرفه بلمسة يد. وتغرق مناطق بأكملها في كارثة إنسانية غير مسبوقة. ولإخفاء هذه الويلات وتفريق القوى الشعبية بشكل أفضل، تقوم حملات إعلامية حقيرة بتعبئة الرأي العام تحت اسم ”الأمن“ بينما تدين الطبقات الجديدة الخطيرة. وعلى غرار ما حدث في أواخر القرن التاسع عشر وثلاثينيات القرن العشرين، تدفع قوى الرجعية بشبح العامل الأجنبي لإثارة الخوف. فيتمّ اتّهام العمّال الأجانب بأنّهم ليسوا ”مواطنين صالحين“، أو أنّ لهم ديانة مختلفة، أو ليس لهم أي دين، ويحرمون من مزاولة المهن الشرعية التي يصونها قانون العمل. ولم يعد بالإمكان إخفاء الدعوة إلى الفصل العنصري وجميع أشكال التفرقة الاجتماعية. بل على العكس من ذلك، فإن هذه المناصرة بالنسبة للعديد من المثقفين والسياسيين تميز روح ما بعد الحداثة القادرة على استيعاب - ”دون أي محرمات“ - العولمة والمشاكل المجتمعية الجديدة“.
كتب عبد الله هذا المقتطف في عام ٢٠٠٥، في الوقت الذي كانت فيه الأجهزة القمعية الفرنسية تشنّ هجومًا واسع النطاق ضدّ أبناء العمّال المهاجرين وسكّان الضواحي الشعبية المفقرة. يشير جورج عبد الله أيضًا إلى خطورة اعتماد مقاربة ”ما بعد الحداثة“ لتحليل هذه المشاكل. يقودنا اعتماد هذا النهج إلى استنتاج أن مسائل العنصرية والتمييز الجنسي ورهاب المثلية الجنسية والطبقية هي مسائل مختلفة تتقاطع مع بعضها البعض. وباتّباع هذا المنطق، يدفع المرء إلى قصر نضاله على أشكال محددة من الاضطهاد التي تؤثّر عليه بشكل مباشر، والسعي نحو الخلاص الفردي، كما يشير بوعمامة. على الرغم من أنّ أشكالًا محدّدة من الاضطهاد مثل العنصرية والتمييز الجنسي لها انعكاسات موضوعية وينبغي مكافحتها بكلّ الوسائل، إلّا أنّها مع ذلك مرتبطة بالمسألة المركزية للصراع الطبقي ضد نظام الاضطهاد الرأسمالي بأكمله، والذي يعيد أيضًا إنتاج التمييز الاجتماعي ضد الفئات السكّانية ”غير المرغوب فيها“. وفي الآونة الأخيرة، فإنّ هؤلاء البرجوازيين أنفسهم من حاملي النظام الرأسمالي هم الذين يروّجون لفكرة ”حملة صليبية حضارية“ ضدّ المهاجرين وغيرهم من السكّان المهمّشين في المجتمعات الأوروبية. وقد قاد هذه الجهود في فرنسا على وجه الخصوص، مجموعة من أصحاب المليارات الذين يتمتعون بعلاقات جيدة والذين تمكّنوا من بناء أبواقهم الدعائية اليمينية. ومن أشهر هؤلاء فنسنت بولوريه، وزافيير نيل، وبرنارد أرنو، وحتى وقت قريب، الملياردير الصهيوني باتريك دراحي.
لا يمكن فصل الدعاية الرجعية المستمرّة التي تبثّها وسائل الإعلام التي يمتلكها هؤلاء عن الدعم غير المشروط الذي قدّمته هذه الوسائل الإعلامية نفسها للكيان الصهيوني خلال حرب الإبادة الجماعية التي شنّتها على غزّة، وكذلك هجومها الواسع على المنطقة بأسرها. وقد دأبت منصّات مثل ”سيه نيوز“ و”بي إف إم تي في“ و”لو جيه دي دي“ على تصوير الكيان على أنّه في طليعة ”الحرب على الإرهاب“ العالمية وشريك في ”صراع الحضارات“ لحماية ”القيم الغربية“. ويتشابه الخطاب المستخدم في هذا السياق بشكل لافت، مع الخطاب الذي تمّ الترويج له عبر مختلف وسائل الإعلام الإمبريالية منذ أكثر من ٢٠ عامًا لتصنيع الإذعان على غزو العراق عام ٢٠٠٣، والذي حلّله عبد الله على النحو التالي:
”بالطبع، لا أحد يجهل حقيقة أنّ الإمبرياليين الأمريكيين لا يشنّون الحروب لمجرّد إرضاء فورة القتل لدى هذا الرئيس أو ذاك، أو إرضاءً لحقد على هذا الشعب أو ذاك. وينبئ الإطار القانوني العام الذي وضعته إدارة بوش لفرض نموذج اقتصادي جديد في العراق في هذا الصدد. وقد تمّ وضع هذا الإطار الإمبريالي بمباركة كبرى الشركات متعددة الجنسيات، مثل بكتل وهاليبورتون وغيرهما... قد يقدّم بوش حججاً كثيرة لتبرير شنّ هذه الحرب، لكنها أبدًا لا تتصدّر عناوين الصحف الإمبريالية الكبرى. لقد أظهر غزو العراق واحتلاله أنّ الدول الإمبريالية تهدف، باسم ”الحرب على الإرهاب“، إلى فرض إطار يلبّي احتياجات الشركات متعدّدة الجنسيات. إنّ مشاريع بوش ورامسفيلد وبيرل وغيرهم، تعود إلى أواخر الثمانينات، وهم مصمّمون على نهب الاقتصاد العراقي وموارده الطبيعية ووضعها بشكل دائم تحت تصرّف الشركات المتعدّدة الجنسيات. ومن المؤكّد أنّ العراق ليس سوى البداية. إنّ الوضع الحالي في فلسطين، والتهديدات التي تلوح في الأفق ضدّ لبنان، وضدّ سوريا، وضدّ إيران، وضدّ المنطقة بأسرها، تنذر بهذا الاتّجاه.“
وما يؤكد تحليل عبد الله هذا هي الأحداث التي تكشّفت منذ ذلك الحين، ولا سيما منذ عمليات طوفان الأقصى. لطالما أدرك عبدالله ما العمل: التضامن العالمي في مواجهة الإمبريالية العالمية. وهو شكل من أشكال التضامن الذي يعبّر عن نفسه، ليس بالمعنى الأخلاقي أو المثالي كما يشير بوعمامة، بل بالمعنى المادّي للكلمة. وهذا يعني عمليًا استخدام تكتيكات قصيرة الأجل واستراتيجية طويلة الأجل بهدف إضعاف الإمبريالية في كلّ مكان في العالم. وكما قال الماركسي الفلسطيني غسان كنفاني:
”إنّ الامبريالية جسد بشع يتمدّد فوق العالم، أينما ضربته توجعه وتخدم الثورة العالمية.“
غير أنّ هذا النضال العالمي ضدّ الإمبريالية العالمية يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الاختلافات في الظروف المادية الموجودة في كلّ بلد أو في كلّ مجتمع لتحديد التكتيكات والاستراتيجية الثورية التي ستكون بالطبع مختلفة بشكل لافت للنظر في بلدان الأطراف عنها في بلدان المركز الإمبريالي.
عن تحرير عبد الله
سُجن عبد الله في عدة مراكز اعتقال فرنسية. منذ عام ١٩٩٤، وهو مسجون في سجن لانميزان في جنوب فرنسا. لطالما تبنّى عبد الله مبادئ الأممية خلال نضاله وكفاحه. حافظت الفصائل المسلّحة الثورية اللبنانية على علاقات وثيقة مع مختلف الجماعات الثورية المسلّحة الأوروبية، بما في ذلك منظمة ”العمل المباشر“ الفرنسية، و”فصائل الجيش الأحمر“ الألمانية و”الألوية الحمراء“ الإيطالية.
بعد سجن عبدالله، لم تقطع علاقاته بأعضاء هذه الجماعات بل توطّدت، كما تصلّب إيمانه بوحدة نضالهم ومصلحتهم المشتركة. في لانميزان، كان عبد الله يتردّد على سجناء سياسيين ثوريين آخرين، بمن فيهم أعضاء منظّمة إيتا الماركسية اللينينية الباسكية المسلّحة، وكذلك العضو المؤسس لمنظّمة ”العمل المباشر“، جان مارك رويان. كان كلّ من عبد الله ورويان، إلى جانب العشرات من السجناء السياسيين الماركسيين والأناركيين الآخرين، من الموقّعين على منصة ١٩ حزيران/يونيو ١٩٩٩، معلنين رفضهم الجماعي لأي محاولات من قبل سلطات الدولة لابتزازهم وغيرهم من السجناء الثوريين لإجبارهم على التراجع مقابل الإفراج عنهم. لا للتراجع، لا للاستسلام. لا سلام دون عدالة، كما جاء في المنصة.
رفض جورج عبد الله كغيره من السجناء السياسيين الثوريين الذين سبقوه رفضًا قاطعًا التراجع في موقفه أو إبداء أي ندم إزاء الطريق الذي سلكه. عند مواجهته باتّهامات المدّعين في المحاكمة، وعلى الرغم من أنّ عبد الله لم يعترف بمشاركته المباشرة في تنفيذ الاغتيالات المنسوبة إليه، إلّا أنه ظل متمسكًا بشرعية هذه الأعمال:
”هذه هي أبجديات عدالتكم ومضمون هذه المحاكمة وهذه الاتّهامات التي هي بالنسبة لي مجرّد تكريم لم أكن أستحقّه. فإذا لم يكن شعبنا قد خوّلني شرف المشاركة في هذه الأعمال المناهضة للإمبريالية التي تنسبونها إلي، فإنّني على الأقل أتشرّف بأنّني متّهم بارتكابها من قبل محكمتكم، وأتشرّف بالدفاع عن شرعيتها وأنا أواجه الشرعية الإجرامية للجلّادين، وأصرخ بصوت عالٍ وواضح: دعونا نقضي على أي عائق أمام شرعية نضالنا. دعونا ندوس على سلام من النوع الذي يتجلّى في أراضينا بمصطلحات ”السلام في الجليل“.
ووفقًا للقانون الفرنسي، يحقّ للسجناء المحكوم عليهم بالسجن المؤبد دون مدّة حبس احتياطي أن يحصلوا على إطلاق سراح مشروط بعد قضاء ١٥ عامًا من محكوميتهم في السجن. وفي حالة جورج إبراهيم عبد الله، فهو مؤهّل للإفراج المشروط منذ ٢٧ تشرين الأول/أكتوبر ١٩٩٩.
ومنذ ذلك الحين، رُفضت ١٠ طلبات للإفراج عن عبد الله. وفي تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠٠٣، حكمت الهيئة القضائية الإقليمية للإفراج المشروط التابعة لمحكمة بو بالإفراج المشروط عن جورج عبد الله. وقد تمّ استئناف هذا القرار في وقت لاحق من قبل النيابة العامّة ممّا أدّى إلى إلغاء القرار. كما دفع هذا الأمر الحكومة إلى إصدار قانون جديد: ينصّ القانون الصادر في ٢٣ كانون الثاني/يناير ٢٠٠٦ المرتبط بمكافحة الإرهاب على أنّ الأحكام في قضايا الإرهاب تقع ضمن الاختصاص الحصري لـ ”قاضي باريس لتنفيذ الأحكام“ (Juge d'application des Peines de Paris) و”غرفة باريس لتنفيذ الأحكام“ (Chambre d'Application des Peines de Paris). هذه المركزية في قضايا الإرهاب تجعل من غير المرجّح أن يحصل عبد الله على إفراج مشروط، لأنّ قاضي باريس المسؤول عن الفصل في هذه القضايا أكثر إقبالاً على الامتثال للقرارات السياسية التي تمليها عليه السلطات العليا.
في ٢١ تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠١٢، قبلت محكمة مكافحة الإرهاب الفرنسية لتنفيذ الأحكام للمرّة الأولى طلب الإفراج المشروط الثامن لعبد الله. غير أن الإفراج عنه كان مشروطاً بتوقيع وزير الداخلية على قرار الترحيل.
في ١١ كانون الثاني/يناير ٢٠١٣، علّقت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية على هذا الحكم في مؤتمر صحفي، قائلةً:
”من الواضح أننا نشعر بالقلق إزاء هذا الإفراج، ولا نعتقد أنه ينبغي إطلاق سراحه، ونحن نواصل مشاوراتنا مع الحكومة الفرنسية. لدينا مخاوف جدية من إمكانية عودته إلى ساحة المعركة... إلخ...“
وقد رفض وزير الداخلية الفرنسي آنذاك، وعضو ”الحزب الاشتراكي“ والداعم لإسرائيل مانويل فالس (الذي يوصف اليوم على نطاق واسع بأنه ”أكثر سياسي مكروه في فرنسا“)، التوقيع على قرار ترحيل عبد الله إلى لبنان. ونتيجة لذلك، حكمت محكمة الاستئناف الفرنسية في ٤ نيسان/أبريل ٢٠١٣ بعدم إمكانية الإفراج عن عبد الله. وبعد خمس سنوات، سلّط موقع ويكيليكس الضوء على الضغوطات الأمريكية التي مورست بشكل مباشر على السياسيين الفرنسيين لمنع إطلاق سراح عبد الله، وذلك من خلال مشاركة رسالة بريد إلكتروني أرسلتها وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك هيلاري كلينتون إلى وزير الخارجية الفرنسي آنذاك لوران فابيوس، تحثّه على عدم السماح بإطلاق سراح عبد الله. جاء فيها:
”على الرغم من أنّ الحكومة الفرنسية لا تملك السلطة القانونية لإلغاء قرار محكمة الاستئناف الصادر في ١٠ كانون الثاني/يناير، إلّا أنّنا نأمل أن يجد المسؤولون الفرنسيون أساسًا آخر للطعن في قانونية القرار“.
بين عامي ٢٠١٣ و٢٠٢٤، رُفضت جميع طلبات عبد الله للتحرير المشروط. هذه المعارضة المستمرة للإفراج عن عبد الله، الذي سيبلغ من العمر ٧٤ عامًا في شهر نيسان/نيسان المقبل، معروف سببها. وقد أقرّ بذلك المدّعي العام الفرنسي (Procureur de la République) في عام ٢٠٠٥:
”عبد الله شيوعي ثوري، وهو يعترف بذلك بنفسه. أيمكنك أن تتخيّل، شيوعي... بل أنّه يضرب عن الطعام دعماً للأسرى الفلسطينيين، بل إنه يقول ”تحيا الانتفاضة“... وبعد ٢٢ عاماً في السجن، إذا عاد إلى بيروت سيكون أيقونة بالنسبة لسكّان الأحياء الفقيرة... هذا لا يطاق! هذا ما سيعيبه علينا الأميركيون والإسرائيليون. لهذا السبب يا سيادة الرئيس قراركم سياسي“.
هذا هو بالضبط سبب خوف الولايات المتحدة وإسرائيل ونتائجهما الإمبريالية من نتيجة إطلاق سراح عبد الله. لأن عبد الله لم يتراجع أبداً، ولم يتخلَّ عن معتقداته، ولأنّه يمثل واحداً من آخر من ينتمون لطينة من الشيوعيين الثوريين الأمميين المسلحين الذين لاحقوا أعداءهم الإمبرياليين في كلّ مكان.
لقد برز الجهاز القضائي الفرنسي طوال الستة عشر شهرًا الماضية في حملته الصارمة على كل التنظيمات المؤيدة لفلسطين، بعد دعم الدولة الفرنسية غير المشروط للإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل في غزة. تحدّث عبد الله عن الوضع في غزّة في ٢٦ تشرين الأوّل/أكتوبر ٢٠٢٤، في رسالة وجّهها إلى رفاقه الذين شاركوا في المظاهرة السنوية في لانميزان للمطالبة بتحريره:
”أيها الرفاق والأصدقاء، في هذه الحقبة من أزمة الرأسمالية العالمية وتفاقم كلّ تناقضاتها - حقبة الحرب والمجازر الواسعة النطاق والقمع والفاشية والدعاية والتلاعب، حقبة النضالات الكبرى والتعبئة وخاصة الطفرة الملهمة للشباب النشط وسط الهمجية المتأصّلة في الرأسمالية المحتضرة... لأوّل مرّة في تاريخ البشرية، يشهد ملايين الناس على مرأى أعينهم إبادة جماعية مستمرّة. على مدى أكثر من ٣٨٠ يومًا، يواصل مرتكبو الإبادة الجماعية بنشر الدمار في غزّة والضفّة الغربية، ويوسّعون الآن حربهم لتشمل لبنان بدعم فعّال من القوى الإمبريالية الرئيسية في الغرب. ومع ذلك، وبفضل المقاومة البطولية للجماهير الشعبية الفلسطينية وطلائعها المناضلة، وبفضل التعبئة التضامنية الهائلة في جميع أنحاء العالم، تقاوم فلسطين وتستعيد، أكثر من أي وقت مضى، مكانها الصحيح في طليعة المشهد الدولي.
ومن هذا المنطلق، أيها الرفاق الأعزاء، أيها الأصدقاء الأعزاء، قد يكون من المفيد أن نتذكر أن التضامن الدولي الفعال يثبت أنه سلاح لا غنى عنه في الكفاح ضد الاستعمار الاستيطاني المستمر في فلسطين وحرب الإبادة الجماعية الملازمة له في العمق. فمن خلال هذا التضامن النشط يمكننا دائمًا أن نشارك في تغيير موازين القوى هنا، في بطن الوحش الإمبريالي، وفي أماكن أخرى في بناء ”الكتلة التاريخية“، وهي إطار عالمي وموضوع محتمل لحركة التحرر الوطني الفلسطيني."
تبرز هذه الرسالة وحدها فشل النظام القمعي الفرنسي في إخماد إرادة عبد الله الثورية. كما أنّها ستفشل في إخماد الحركة المؤيّدة لفلسطين في فرنسا رغم الاستهداف الممنهج للمنظّمين الرئيسيين والتهديد بحلّ المنظمات المؤيّدة لفلسطين وكان آخرها ”رابطة فلسطين ستنتصر“ (Collectif Palestine Vaincra) الذي كان تاريخيًا أحد المنظّمات الرئيسية الداعمة لعبد الله وقضيته.
كلّ التضامن مع ”رابطة فلسطين ستنتصر"
الحرية لجورج إبراهيم عبد الله.