خلال المرحلة الحالية ومع ما شهدناه من تصاعد في وتيرة الاعتداءات الصهيونية الإبادية على البلاد، حظت المقاومة في لبنان على دعم فئات شعبية واسعة ليست محصورة بأنصار حزب الله السياسيين ولا بأبناء بيئته الحاضنة. تدرك الغالبية العظمى من اللبنانيين أهمّية الاصطفاف وراء المقاومة في مواجهتها لعدوّ استعماري غاشم، فقد واجه اللبنانيون بالفعل، على مدى ال٧٦ سنة الأخيرة، آلاف المجازر والجرائم التي ارتكبها العدوّ الصهيوني بحقّ أبناء شعبهم، كما كانوا شاهدين عن كثب للحرب الإبادية التي يشنّها على غزّة منذ أكثر من سنة، مع تواطؤ ما يسمّى ب"المجتمع الدولي". لقد أدرك معظم اللبنانيين على مرّ السنين والتجارب، أهمّية التوحّد دعما للمقاومة، واضعين الاختلافات الثانوية جانبا، وذلك بعد أن عاهدوا محاولات الصهاينة لاستغلال التناقضات الهوياتية بهدف تفتيت شعبنا حسب الانتماءات القومية والطائفية.
ومع ذلك، تستمرّ قلّة قليلة من اللبنانيين، هي صغيرة عددا لكنّها نافذة لما تملكه من وسائل إعادة الإنتاج، ببثّ خطاب معادٍ للمقاومة ومهادن مع العدوّ الصهيوني. يتفشّى هذا الخطاب في أوساط الليبراليين واليمينيين في لبنان، أي في صفوف معسكر الذين يطلقون على أنفسهم تسمية "السياديين"، وهؤلاء يدعون لنزع سلاح حزب الله وباقي الفصائل المسلّحة في لبنان وتسليمه للجيش اللبناني، على اعتبار أنّ الجيش هو الجهة الشرعية الوحيدة لحماية وضمان الأمن والسيادة اللبنانيين. ولقد توّج هذا الدعم للجيش اللبناني بتسمية قائده جوزف عون، المدعوم أمريكيا، رئيسا للجمهورية في خرق للدستور اللبناني. كما تمّ تعيين المرشّح المدعوم من الولايات المتّحدة، نواف سلام، لرئاسة الحكومة. مع العلم أنّ الولايات المتّحدة بصدد إنشاء ثاني أكبر مجمّع سفارة في العالم، في عوكر بضواحي بيروت. ومع ذلك، تستمرّ منصّات إعلامية كبيرة ومؤثّرة بالترويج لفكرة وجود "احتلال إيراني" يطغو على لبنان.
يهمّنا في هذا المقال تفكيك هذه السردية وتوضيح العوائق التي تجعل الجيش اللبناني عاجزا عن الدفاع عن لبنان من الخطر الوجودي الذي يشكّله الكيان الصهيوني
لمحة تاريخية
المفارقة هي أنّ أوّل من حمل هذا الخطاب وروّج له في لبنان هي الأحزاب الفاشية المقرّبة من دول الخليج والدول الغربية كحزب الكتائب وحزب القوّات اللبنانية المنشقّ عن الكتائب، فيما أنّ الخطاب الذي تبنّاه الفاشيون اليمينيون تاريخيا هو ذاك المتمثّل بعبارة "قوّة لبنان بضعفه". إنّ هؤلاء الذين باتوا اليوم يدعون لتسليح الجيش اللبناني، هم نفسهم الذين كانوا يتصدّون آنفا، وذلك حتّى اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية سنة ١٩٧٥، لمحاولات تسليح الجيش وتزويده بأسلحة ثقيلة تخوّل له الدفاع عن أرضه في وجه التهديدات الخارجية.
منذ نشأة دولة لبنان وحتّى اليوم، ظلّت مهامّ الجيش اللبناني مهامّا داخلية تقتصر على "ضبط الأمن الداخلي"، بما معناه قمع التحرّكات الشعبية التي تهدّد مصالح النظام السائد، وخاصّة خلال حقبة الخمسينات حتّى بداية السبعينات، وهي فترة شهدت حراكا نقابيا نشطا ومجموعة من الإضرابات والتظاهرات العمّالية شارك الجيش في فضّها بالقوّة. كما أحكم الجيش سيطرته على المخيّمات الفلسطينية التي تولّى إدارتها المكتب الثاني، وهي شعبة استخبارات عسكرية قد أسّسها رئيس الجمهورية وقائد الجيش الأسبق فؤاد شهاب، وعرفت بتنكيلها واعتداءاتها الدورية على سكّان المخيّمات الفلسطينية بصورة خاصّة، وذلك حتّى إبرام اتّفاق القاهرة سنة ١٩٦٩، والذي أتاح لفصائل المقاومة الفلسطينية حرّية العمل من داخل الأراضي اللبنانية.
قبل اتّفاق القاهرة، كان الجيش اللبناني وأجهزة الدولة اللبنانية يعتقلان الفدائيين الذين ينشطون من داخل الأراضي اللبنانية ضدّ الكيان الصهيوني، حتّى أنّه فرض حصارا دام ٣ أيام على مدينة بنت جبيل الجنوبية حينما أبى أهلها أن يسلّموا فدائيين تسلّلوا داخل حدود فلسطين المحتلّة وعادوا للبنان بعد تنفيذ عمليّة. في الوقت نفسه، كان الجيش عاجزا عن التصدّي للاعتداءات الصهيونية على البلاد، فبحسب المؤرّخ محمود سويد، لقد سجّل ١٤٠ اعتداءا صهيونيا على الأراضي اللبنانية منذ إبرام هدنة ١٩٤٩ حتّى سنة ١٩٦٤، أي قبل تأسيس منظّمة فتح وتنظيم فصائل المقاومة المسلّحة الفلسطينية.
عرقلة اليمين
جاء رفض قادة اليمين الفاشي اللبناني لتسليح الجيش اللبناني وتمكينه من مواجهة العدوّ الصهيوني، من مبدأ الحرص على ضمان "حيادية" لبنان في سياسته الخارجية وعزله عن السياق الإقليمي الأوسع وقطع الأوصال العضوية التي تربط بين لبنان وفلسطين وشعبهما الواحد وقضيتهما الواحدة.
في حين كان زعماء اليمين ينأون عن القضية الفلسطينية على اعتبار أنّها قضية خارجية لا دخل للبنان فيها، وفي حين أنّهم كانوا يتّهمون الفلسطينيين الذين هجّرهم الاحتلال إلى لبنان على أنّهم يشكّلون خطرا وجوديا على "السيادة" اللبنانية، كان هؤلاء الزعماء أوّل من يسارع إلى انتهاك هذه السيادة المزعومة في فترات تاريخية مختلفة؛ فقد استنجد رئيس الجمهورية كميل شمعون بحلفائه الأمريكيين للحفاظ على حكمه وسط الرفض الشعبي لعهده وذلك سنة ١٩٥٨، ليتدخّل الأمريكيون عسكريا ولتنتشر قوّات المارينز الأمريكية في شوارع بيروت في إطار ما سمّي ب"عملية الخفّاش الأزرق". أمّا خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وهي حرب شنّها حزب الكتائب اللبنانية الفاشي على الفصائل الفلسطينية وحلفائهم اللبنانيين بذرائع طائفية، فقد أمّن ميليشياويو الكتائب غطاء لدخول الجيش السوري عسكريا إلى لبنان في صفّ اليمين الانعزالي، قبل أن يتعاملوا مع العدوّ الصهيوني ويشركوه عسكريا في لبنان، ما أتاح للعدوّ شنّ اجتياحين على لبنان في سنتي ١٩٧٨ و١٩٨٢، وأدّى الثاني لتسلّم الزعيم الكتائبي بشير الجميّل رئاسة الجمهورية من على ظهر الميركافا الصهيونية.

انقسام الجيش
مع بداية الحرب الأهلية، تفكّك الجيش اللبناني وراح جنوده ينشقّون بأعداد كبيرة للانضمام للفصائل المتحاربة، من ضمنها ما يعرف ب"جيش لبنان الجنوبي"، وهي ميليشيا تحارب بالوكالة عن جيش الاحتلال وتضمّ جنودا منشقّين عن الجيش اللبناني النظامي، وقد أسّسها ضابطان يمينيان سنة ١٩٧٦، أوّلهما سعد حدّاد المقرّب من كميل شمعون وميليشيا الأحرار، إلى جانب سامي الشدياق الذي كان ممثّلا لحزب الكتائب اللبنانية في جنوب لبنان. لقد عملت هذه الميليشيا على فرض الأجندة الصهيونية في الجنوب، وخاصّة بعد اجتياح ١٩٨٢ حيث فرضت التجنيد الإلزامي في مناطق سيطرتها وتولّت إدارة معتقلات عرفت بقساوتها ومارست شتّى أنواع التعذيب والتنكيل بحقّ الجنوبيين، لعلّ أشهرها معتقل الخيام.
ظهور المقاومة في لبنان
كلّ هذه العوامل من عجز الجيش وتغلغل الصهاينة وأذنابهم من اللبنانيين، اضطرّ بأهالي الجنوب إلى التنظيم ذاتيا لمجابهة المحتلّ، فتشكّلت مقاومة شعبية عضوية مكوّنة من فصائل عدّة ومنها الحزب الشيوعي اللبناني والحزب السوري القومي الاجتماعي اللذين وحّدا جهودهما، إلى جانب تنظيمات يسارية وعربية قومية أخرى، تحت إطار "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية" (جمول)، إضافة إلى حركة أمل، وحزب الله فيما بعد.
ما دفع جيش الاحتلال للانسحاب من بيروت سنة ١٩٨٢، مهزوما مستغيثا اللبنانيين بعدم إطلاق النار عليهم، كان سلسلة من العمليات نفّذها مقاومون من فصائل مختلفة، وبطليعتها الحزب السوري القومي الاجتماعي، جعلت تكلفة احتلال بيروت بالنسبة للصهاينة باهظة جدّا.
يقول فرانز فانون:
"الاستعمار لا يرفع يده إلا إذا جعلت السكين في رقبته"
وهذا ما أثبته العدوّ الصهيوني الذي لا يعرف لغة سوى لغة السلاح. أمّا الاتفاقيات والشرائع الدولية فلا نفع لها مع 'اسرائيل'، كما تبيّن سنة ١٩٨٢ بعد أن كانت قد وافقت منظّمة التحرير الفلسطينية على الانسحاب من لبنان، مع ابرام اتّفاق مع الولايات المتّحدة ينصّ على عدم المسّ باللاجئين الفلسطينيين المدنيين، ما لم يمنع الاحتلال من ارتكاب مجزرة صبرا وشاتيلا من خلال أذياله في البلاد، المتمثّلين بالقوّات اللبنانية بالدرجة الأولى.
في سنة ٢٠٠٠، وبعد ١٨ سنة من الكفاح، نجحت المقاومة في لبنان في تحرير الجنوب من الاحتلال الصهيوني الذي كان مستمرّا منذ اجتياح سنة ١٩٨٢، فتمّ تحرير كافّة الأراضي اللبنانية سوى مزارع شبعا وتلال كفرشوبا التي كان قد احتلّها الصهاينة خلال حرب ١٩٦٧، إلى جانب القرى السبع التي احتلّوها خلال النكبة، سنة ١٩٤٨. عبر تحرير الجنوب من الاحتلال، فرض حزب الله شرعية تواجده وتسلّحه في لبنان، حاملا راية المقاومة ضدّ 'اسرائيل'. بالمقابل، جعلت بعض المجموعات السياسية اليمينية في لبنان مذ ذاك من قضية نزع سلاح المقاومة قضية مركزية.
الرجعية اللبنانية وكذبة 'سويسرا الشرق'
كما ذكرنا آنفا، لم تبدأ الاعتداءات الصهيونية بعد بدء عمل فصائل المقاومة من الأراضي اللبنانية كما يدّعي البعض، حيث إنّ الصهاينة قد ارتكبوا مجازر في قرى لبنانية خلال نكبة ال١٩٤٨، لعلّ أكثرها شناعة كانت مجزرة قرية حولا التي ارتكبها جيش الاحتلال الصهيوني بعد تأسيسه ببضعة أشهر، فاستشهد ما لا يقلّ عن ٩١ قرويّ لبناني.
حتّى اليوم، تحاول أبواق اليمين الفاشي في لبنان تحميل المقاومة اللبنانية والفصائل الفلسطينية المسلّحة مسؤولية الاعتداءات والحروب الصهيونية على البلاد، زاعمة أنّ الصهاينة لا شأن لهم للتدخّل عسكريا في لبنان لولا تواجد المقاومة المسلّحة، وهذه سردية لا تاريخية وغير دقيقة في طبيعة الحال، ذلك لأنّها تتغاضى عن مئات الهجمات الصهيونية على لبنان قبل توافد فصائل المقاومة الفلسطينية وقبل تأسيس أولى أفواج المقاومة اللبنانية التي تأسّست تحديدا للتصدّي لاعتداءات العدوّ. وتترافق هذه النظرة مع خطاب قومي رومانسي يستأنس بلبنان ما قبل الحرب الأهلية، والذي كان يعرف حينها ب"سويسرا الشرق"، بسبب الازدهار الاقتصادي ودرجات التقدّم العالية التي وصلتها البلاد حينها. إلّا أنّ ما يغفل عن ذكره هؤلاء الدعائيون، هو أنّ الحرب الأهلية لم تندلع على يد المسلّحين الفلسطينيين، بل على يد الكتائبيين ورفاقهم الفاشيين الذين شنّوا حربا تطهيرية ضدّ الفلسطينيين وحلفائهم، بدأت باستهداف حافلة سنة ١٩٧٥ كان جلّ ركّابها من المدنيين غير المسلّحين، وعندما وجدوا أنفسهم خاسرين في الحرب التي شنّوها، أقدم الفاشيون - الذين يطلقون على أنفسهم لقب 'السياديين' اليوم - على إشراك جيشين أجنبيين بالقتال في لبنان، أحدهما من دولة مصنّفة قانونيا على أنّها دولة عدوّة (جيش الاحتلال الصهيوني).
ما يجب ذكره كذلك، هو أنّ لقب "سويسرا الشرق" الذي كان يطلق على لبنان في تلك الفترة ليس دقيقا، فقد كانت غالبية الشعب اللبناني تعيش في حالة من الفقر المدقع، حيث إنّ أغنى ٤٪ من اللبنانيين كانوا يحتكرون ٣٣٪ من الناتج القومي سنة ١٩٥٨، وكانت هناك ارتباطات وثيقة بين الزعماء السياسيين وكبار الرأسماليين، أتاحت لهم الحصول على امتيازات عديدة من الدولة. إنّ الاقتصاد اللبناني، منذ تلك الفترة وحتّى اليوم، هو اقتصاد ريعي غير منتج. نظّرت للنموذج الاقتصادي اللبناني حفنة من المفكّرين الذين أنتجهم الاستعمار الفرنسي لخدمة أجنداته، وعلى رأسهم المدعو ميشيل شيحا الذي لعب دورا بارزا في صياغة الدستور اللبناني كذلك. في إطار هذا النموذج، يضعف القطاعان الصناعي والزراعي ويغلب عليهما القطاع الخدماتي والرأسمال المالي، ما يؤدّي إلى تكديس ثروات البلاد في أيدي ثلّة من الأغنياء فاحشي الثراء. والسبب الرئيسي الذي جعل من لبنان محطّة تجارية بارزة في المنطقة هو مقاطعة الدول العربية للكيان الصهيوني وبالتالي مقاطعتهم لموانئ فلسطين المحتلّة، مستبدليها بموانئ لبنان، ما حوّل البلاد إلى بوّابة العالم نحو الدول العربية. بمعنى آخر، لقد انتفعت البرجوازية اللبنانية بصورة غير مباشرة من نكبة الفلسطينيين وكان من مصلحتها استمرار الوضع لما كان عليه في الفترة الممتدّة بين ١٩٤٨ و١٩٧٥.
دون أن ننسى أنّ نظام النيوليبرالية المفترسة الطاغي على لبنان وضع اللاجئين الفلسطينيين في أسفل الهرم الاجتماعي، حيث إنّهم لم يكونوا مشمولين في قانون العمل وكانوا ممنوعين من مزاولة عدد كبير من المهن، وكان يتمّ استغلال الغالبية العظمى منهم كعمّال بأجور متدنّية جدّا مقارنة باللبنانيين.
من جهتهم، كان الجنوبيون ضحية أخرى للنظام النيوليبرالي اللبناني، فقد كان نمط الإنتاج السائد في الجنوب هو الزراعة، في حين كان القطاع الزراعي أكثر القطاعات الاقتصادية تهميشا في البلاد، وانخرط عدد كبير من الجنوبيين في العمل النقابي، ليتعرّضوا للبطش والقمع الممنهجين على أيدي أجهزة الدولة نفسها التي تقف عاجزة بوجه الاعتداءات الصهيونية على الجنوب.
عن التفوّق العسكري النوعي
"تحديدا في أمريكا حركة التضامن مع فلسطين بأغلبيتها مشروطة باستمرار وجود الكيان الصهيوني، من يناصر قضيتنا من الأمريكيين ويعادي تماما الكيان الصهيوني ووجوده بالضروري أنّه يعادي فكرة أمريكا، دولة العدوّ تكاد تكون نسخة كربونية طبق الأصل عن أمريكا باستثناء أنّ المشروع الصهيوني كان يعي ذاته تماما منذ النشأة.
من المستحيل كسب أمريكي إلى معسكرنا بدون أن يعادي فكرة أمريكا، لذلك ما تغلبوا حالكم وتستثيرون عواطف الأمريكيين وتستجدّون دموعهم على ذواتكم المجروحة، الأفضل والأهم أن تفكّكوا فكرة أمريكا من رؤوسهم كمدخل لضمان استيعاب قضيتنا وحقوقنا وكل ما عدا هذا من جهد إنّما كزبد سيذهب جفاء."
~الشهيد باسل الأعرج
لا شكّ أنّ الولايات المتّحدة هي الحليف الأقوى والأوفى للكيان الصهيوني الإبادي، ذلك لدور الكيان كموقع أمامي للإمبريالية الغربية في الشرق الأوسط. ولقد ظهر مدى تمسّك أمريكا بالحليف الصهيوني، خاصّة بعد بدء الإبادة على غزّة، حيث استمرّ الأمريكيون بدعم الصهاينة دعما غير مشروط، عسكريا وسياسيا. الولايات المتّحدة هي، دون أي منازع، أكبر مورّد للأسلحة والعتاد العسكري للكيان الصهيوني، حتّى مقارنة بالعديد من الدول الأوروبية كألمانيا أو بريطانيا اللتين تدعمان الاحتلال بالسلاح كذلك. والوضع على حاله منذ حرب النكسة سنة ١٩٦٧، عندما تجاوز الأمريكيون الفرنسيين ليصبحوا المورّدين الرئيسيين للسلاح للصهاينة. ويتحصّل الاحتلال سنويا على مساعدات مالية بقيمة ٣،٨ مليار دولار من الأمريكيين، منها ٣،٣ مليار دولار منح مخصّصة لشراء أسلحة أمريكية وتغذية ماكينة الحرب الأمريكية، ومنها ٥٠٠ مليون دولار مخصّصة للبحث وتطوير وتصنيع وصيانة أنظمة الدفاع الجوّي كالقبّة الحديدية ومقلاع داوود، وذلك ضمن إطار مذكّرة تفاهم بين الحليفين تسري بنودها بين سنتي ٢٠١٩ و٢٠٢٨، تضاف إليها مبالغ أخرى خصّصتها الإدارة الأمريكية لجيش الاحتلال منذ اندلاع معركة طوفان الأقصى لدعم الصهاينة في حربهم الإبادية على غزّة وفي اعتداءاتهم على دول المنطقة. تتراوح تقديرات قيمة المساعدات العسكرية التي دعمت بها الإدارة الأمريكية الصهاينة منذ ٧ تشرين الأوّل/أكتوبر ٢٠٢٣ حتّى شهر تشرين الثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ بين ١٢،٥ مليار دولار و١٧،٩ مليار دولار.
تصون هذه العلاقة بين الحليفين ما يعرف ب"التفوّق العسكري النوعي" (qualitative military edge)، وهو مبدأ التزمت به الإدارات الأمريكية المختلفة منذ أواخر الستّينيات، حتّى بات قانونا سنة ال٢٠٠٨، ويمكن تلخيصه ب٤ نقاط أساسية:
- أنّ سياسة مبيعات الأسلحة الأمريكية ستضمن للكيان الصهيوني أن يكون أوّل المستفيدين من أحدث التقنيات العسكرية الأمريكية في المنطقة.
- في حال كان كلّ من الكيان الصهيوني ودولة عربية أخرى يستخدمان نفس المنظومة العسكرية الأمريكية، يتلقّى الكيان نموذجا أكثر تقدّما من هذه المنظومة أو يملك إمكانية إجراء تحسينات وتعديلات على المنظومة.
- إن اعترض الكيان الصهيوني على بيع جهاز عسكري ما لجيش عربي، يملك الكونغرس الأمريكي القدرة على فرض قيود وشروط على استخدام ونقل هذا الجهاز قبل أو بعد إتمام الصفقة.
- عادة ما يقدّم الأمريكيون تعويضا على شكل حزم أسلحة أو دعم عسكري عندما يبيعون منظومات عسكرية متقدّمة لجيش آخر في الشرق الأوسط.
باختصار، وضع هذا القانون لضمان تفوّق جيش الاحتلال الصهيوني عسكريا على باقي جيوش المنطقة، وقد تمّ تعديله عدّة مرّات كانت آخرها سنة ٢٠١٤، حيث تمّت إضافة بند ينصّ على ضرورة تقدير مدى تأثير بيع سلاح ما لجيش عربي على موازين القوى في المنطقة، وقدرة الكيان على مواجهة أي تهديد من هذا الجيش، إلى جانب بند سابق يلزم بمراجعة ما إن كان بيع سلاح ما لجيش أي دولة في الشرق الأوسط باستثناء الكيان الصهيوني قد يؤدّي لتهديد التفوّق العسكري النوعي الصهيوني، وإن كان الجواب إيجابا فلا تمرّ الصفقة.وما يجب ذكره أنّ هذا القانون ينطبق على سائر دول المنطقة دون استثناء، بما في ذلك الدول الحليفة لواشينجتون. يمكن ذكر على سبيل المثال صفقة شراء الطائرات المقاتلات إف-٣٥ التي أبرمتها دولة الإمارات العربية المتّحدة سنة ٢٠٢٠ مع الولايات المتّحدة الأمريكية، إلّا أنّ إدارة بايدن رفضت تمرير الصفقة وإرسال المقاتلات لدولة الإمارات وذلك على الرغم من تطبيع العلاقات بينهم وبين الكيان والتقارب بينهما من بعد التطبيع، ليبقى جيش الاحتلال الصهيوني الجيش الوحيد في 'الشرق الأوسط' الذي يملك مقاتلات ال إف-٣٥ في ترسانته.وفي حين يلوم اليمينيون في لبنان المقاومة وسلاحها وما فرض عليها من عقوبات أمريكية على سوء تسليح الجيش اللبناني، من المؤكّد أنّ الأمريكيين وهم المورّدون الأساسيون لأسلحة الجيش اللبناني، لن يسمحوا بتزوّد الجيش بأسلحة قد تمكّنه من مواجهة جيش الاحتلال الذي يسبّب خطرا وجوديا على البلاد. وذلك ليس محصورا بالأسلحة الأمريكية فحسب، فقد سبق أن مارس الأمريكيون ضغوطات أدّت لفشل صفقة لبنانية-روسية سنة ٢٠٠٨، كانت ستسمح للجيش اللبناني بتسلّم ١٠ طائرات مقاتلات من طراز ميغ-٢٩.أمّا بعد، ولأنّ جيش الاحتلال سيبقى الجيش الأفضل تسليحا والأقوى عسكريا في المنطقة، لاسيما بفضل الدعم المادّي والعسكري غير المشروط من الولايات المتّحدة الأمريكية وعدد من الدول الغربية الأخرى. ذلك يعني أنّ الأسلوب الوحيد المتاح للبنانيين والفلسطينيين لمجابهة الاحتلال الصهيوني هو عن طريق القتال غير المتكافئ حسب استراتيجية حرب العصابات، وهي الاستراتيجية التي تتّبعها سائر فصائل المقاومة في معركتها مع المحتلّ. فإن كان جيش الاحتلال يواجه جيشا نظاميا آخرا له نقاط ومواقع ثابتة ومعروفة، يمكنه وبفضل تفوّقه الجوّي قصف هذه المواقع دون أي رادع وإلحاق الهزيمة بأي جيش لا يملك منظومات دفاعية جوّية فعّالة، تماما كما حصل سنة ال١٩٦٧ عندما شنّ العدوّ حربا خاطفة على أربع جيوش عربية وتمكّن من هزيمتها في غضون ستّة أيّام فحسب. أمّا المقاومة الشعبية بشكلها الحالي، فتتميّز بارتباطها العضوي بالأرض التي تقاتل منها ومعرفتها بالميدان بتفوّقها البرّي الذي يتيح لها الصمود بوجه عدوّ يتفوّق عسكريا حسب المعايير التقليدية.الخاتمةختاما، لا شكّ أنّ الكيان الصهيوني يشكّل خطرا وجوديا على لبنان واللبنانيين، عكس ادّعاءات اليمينيين. استمرار جهود المقاومة، التي يقودها حزب الله حاليا، هو أمر ضروري للتصدّي لهذا التهديد. هذا ما أثبته لنا العدوّ يوما بعد يوم طوال العقود الماضية ويستمرّ بذلك. عند كتابة هذا المقال، لقد تمّ تسجيل أكثر من ٤٧٢ خرق لإطلاق النار من جانب العدو، وذلك على الرغم من الانتشار المحدود لعناصر الجيش اللبناني في جنوب لبنان. في غضون ذلك، تستمرّ أمريكا بفرض ضغوطات سياسية أحادية على الجانب اللبناني، بينما تتجاهل الخروقات الإسرائيلية للقرار رقم ١٧٠١ الصادر عن مجلس الأمن للأمم المتّحدة. تثبت الاتّفاقيات الدولية والمقرّرات الأممية مرّة أخرى عجزها عن إيقاف الكيان الصهيوني التوسّعي. على اللبنانيين أن يبقوا على نهجهم، داعمين للمقاومة. لا يمكن تحقيق السيادة عن طريق نزع السلاح والانصياع للتدخّلات الخارجية، بل يمكن تحقيقها حصرا عن طريق الوحدة، والثبات، والصمود في مواجهة الاستبداد.