فجر الثامن عشر من مارس/آذار نقض الكيان الصهيوني وقف إطلاق النار بشنّ سلسلة غارات على مناطق متفرقة في قطاع غزة، حيث استشهد في اليوم الأول فقط من استئناف حرب الإبادة أكثر من ٤٢٤ وأصيب أكثر من ٥٦٠ فلسطينياً بحسب وزارة الصحة في غزة.
التزمت حماس طوال فترة وقف إطلاق النار ببنود الصفقة المتفق عليها في ١٧ يناير والتي تكونت من ثلاث مراحل. وبعد تحقيق المرحلة الأولى، كان من المفترض بحسب الاتفاق أن تبدأ المفاوضات على المرحلة الثانية ومن أبرز بنودها ضمان وقف دائم للحرب وانسحاب قوات الاحتلال من كامل قطاع غزة وإدخال المساعدات الإنسانية وفتح معبر رفح، على أن تبدأ في المرحلة الثالثة آليات إعادة الإعمار إضافة إلى تفاصيل أخرى. بالمقابل، خرقت إسرائيل الصفقة عدة مرات خلال تنفيذ المرحلة الأولى باستهدافات وعمليات قنص في داخل القطاع خلفت عدداً من الشهداء والجرحى، ومنع دخول المساعدات الإنسانية بالشكل المتفق عليه إضافة إلى تأخير الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين في القدس والضفة الغربية، ثمّ برفضها الانتقال للمرحلة الثانية من المفاوضات وصولاً إلى انقلابها التام على الاتفاق وعودتها للحرب.
لقد رأت إسرائيل منذ أيام الحرب الأولى فرصة ذهبية لاستكمال مشروعها الاستيطاني على أرض فلسطين باستخدامها أساليب مطابقة لما سبق إعلان قيام الكيان عام ١٩٤٨ من مجازر وتهجير، فعلى الرغم من أنّها لم تتراجع قط عن مخططها الإباديّ منذ إنشائها إلا أنّها فضّلت لفترة من الزمان أساليب القتل والتهجير البطيء. وقد أشارت لذلك جهراً باعترافها أنّ هذه الحرب تشكل بالنسبة لها حرباً وجودية، ووصفتها ب ”حرب الاستقلال الثانية“.
تأكيداً على ذلك، استأنف الاحتلال حربه بالشراسة نفسها، حيث تجاوز عدد الشهداء حتى وقت كتابة هذا المقال أكثر من 920 شهيداً وفقاً لوزارة الصحة الفلسطينية في غزة. كما تواصل قوات الاحتلال تهجير السكان والنازحين من شمال غزة وصولاً إلى رفح. ويحرص الكيان الصهيوني على ارتكاب جرائمه بوحشية تتناسب مع حجم التواطؤ الغربي والعربي في قصفه للمستشفيات مجدداً كمستشفى ناصر، واستهداف طواقم الدفاع المدني والهلال الأحمر مباشرة، وقصف خيام النازحين والإعدامات المدنية وغيرها من فظائع لا تعد ولا تحصى.
يظهر جلياً في استئناف حرب الإبادة إرادة اسرائيل إعادة خلق واقع لا يواجه فيه مشروعها الاستيطاني أي تهديد. ولكن، على مرأى العالم أجمع، كيف تفعل إسرائيل ما تشاء، ومن يضمن لها ذلك؟
سياق الأحداث
١٣ فبراير: الكيان الصهيوني يطالب بتمديد المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار بدلاً من الانتقال لمفاوضات المرحلة الثانية، على عكس ما نصّ الاتفاق، علماً بأنّ المرحلة الثانية كانت تشمل تحوّل وقف إطلاق النار من مؤقت إلى دائم أي ضمان إنهاء الحرب وانسحاب إسرائيل بشكل شامل من قطاع غزة
٢ مارس: - انتهاء المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار. الكيان الصهيوني يوقف إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة ويغلق جميع المعابر معها في خرق آخر للهدنة
- إسرائيل تتبنى خطة المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط ستيف ويتكوف التي تقترح تمديد المرحلة الأولى وإطلاق سراح نصف الأسرى مقابل وقفٍ مؤقتٍ لإطلاق النار خلال شهر رمضان
٥ مارس: حماس تتمسّك ببنود الصفقة الرئيسية وتطالب بالانتقال لمفاوضات المرحلة الثانية كما نصّ الاتفاق
٦ مارس: الولايات المتحدة تبدأ مفاوضات مباشرة مع حماس من خلال مبعوث ترمب لشؤون الأسرى آدم بوهلر
١٣ مارس: المبعوث الأمريكي للشرق الأوسط ويتكوف يقدم مقترحاً جديداً لتمديد المرحلة الأولى دون ضمان وقف دائم للحرب
١٤ مارس: - حماس توافق على مقترح آدم بوهلر الذي يقضي بإطلاق سراح أسير صهيوني أمريكي وأربعة جثامين شرط أن يتم ربطه بالانتقال للمرحلة الثانية، وإسرائيل ترفض.
- حماس تطالب بتعديل مقترح ويتكوف ليكون جزءً من الصفقة الأساسية المتفق عليها في ١٧ يناير، على أن يتم بعده الانتقال للمرحلة الثانية بكافة بنودها.
١٨ مارس: اسرائيل تستأنف حرب الإبادة على غزة بشنّ سلسلة من الغارات الجوية في أنحاء القطاع بالإضافة إلى بعض الأنشطة البرية، وتستعيد ممر "نتساريم" جزئياً. في خطاب متلفز، قال نتنياهو: "من الآن فصاعدًا، ستكون المفاوضات تحت النار فقط".
الضمان الأمريكي لعودة الحرب
تنصّلت إسرائيل بدعم الولايات المتحدة من الاتفاق الأساسيّ وحتى من المقترحات اللاحقة طالما لم تضمن لها خيار الاستمرار في القتل. علماً أنّ المقترحات الأميركية بدت وكأنّها تصاغ من الإسرائيليين أنفسهم لما فيها من تحقيق لمصالحهم المباشرة، خصوصاً بشأن بند وقف الحرب الدائم. وليس ذلك مستغرباً من الولايات المتحدة حتى وإن حاولت وسائل إعلام عبرية -وهي خاضعة للرقابة العسكرية- عكس صورة من التوتر بين أمريكا والكيان الصهيوني خاصة بعد إجراء الولايات المتحدة محادثات مباشرة مع حماس.
لم يكن مفاجئاً أن يصرّح البيت الأبيض بعلمه مسبقاً نية إسرائيل العودة للحرب، فعلى مدار فترة المفاوضات وجهت الولايات المتحدة تهديدات متكررة بالحرب إذا لم ”تمتثل حماس لمطالبها“ كما قال ترامب ومن بعده ويتكوف المبعوث الأمريكي وراعي المقترح الجديد الذي نصح حماس بأن ”تشاهد ما تفعله الولايات المتحدة بالحوثيين“ بعد أن بدأت أمريكا حملة العدوان على اليمن.
في هذا السياق، لا يمكن فصل أي من التحرّكات الصهيوأمريكية في المنطقة عن استئناف الحرب على غزة؛ من العدوان الأميركي الكثيف والمتواصل على اليمن، والقصف الإسرائيلي وانتهاكات وقف إطلاق النار المستمرة في جنوب لبنان والتي وصلت إلى قصف الضاحية الجنوبية لبيروت، إلى القصف والتوغل البرّي الإسرائيلي في سوريا، إضافة إلى التهديدات المعلنة والمسرّبة ضد إيران.
تعيد هذه الضربات المتزامنة ترسيخ وحدة القرار الأميركي-الإسرائيلي، كما ترسّخ الخط الفاصل بين الجبهات المقاومة للمشروع الصهيوأمريكي وبين الجهات التابعة له داخل وخارج فلسطين، وتضعنا في المرحلة التاريخية التي تسعى الإمبريالية الأمريكية فيها لاستعادة سيطرتها وإضعاف الجبهات المعادية والتي تهدد مشروعها في الشرق الأوسط.
لطالما سعت الولايات المتحدة لذلك عن طريق توطيد العلاقات بين الدول العربية والكيان الصهيوني من خلال اتفاقيات التطبيع وبناء مصالح اقتصادية وسياسية مشتركة بينها. هذا الهدف الأميركي الذي يرتكز على التبعية والإخضاع ويصبّ في الخطة الأميركية للشرق الأوسط يتطابق تماماً مع مشروع ”النعيم“ الخاص بنتنياهو والذي عبّر عنه في الأمم المتحدة. وفي الكفة الأخرى ما سمّاه بمستقبل ”الجحيم“ في إشارة إلى قوى المقاومة في المنطقة التي تواجه عدواناً متزامناً اليوم أمريكياً مباشراً أو برعاية أمريكية مباشرة، ما يجعل من صمود المقاومة في كلّ مكان حرباً بحد ذاتها على ”نعيم إسرائيل“.

وفي حين أنّ الدور الأمريكي في مفاوضات وقف إطلاق النار تناغم طبيعياً مع موقف الكيان الصهيوني، إلا أنّ دور الوسطاء كذلك بات يثير التساؤلات. إذ حافظوا على اللهجة المحايدة تجاه تعطيل اسرائيل للمحادثات والإخلال ببنود الاتفاق طوال فترة الهدنة، وعوضاً عن تحميلها مسؤولية الفشل في التوصل لاتفاق في تصريحاتهم الرسمية والإعلامية، فضّلوا الالتزام بتعبيرات كـ ”تعنّت الطرفين“ و“عدم جديتهما“ في إنجاح المفاوضات. نتيجة لذلك، شعر الكثيرون أنّ هذا الدور تحوّل من مبدأ الوساطة إلى أداة للضغط على المقاومة عبر تقديم وتبنّي مقترحات مجحفة ومحاولة انتزاع تنازلات من المقاومة وحدها خلال الفترة الماضية. ويفسّر ذلك أيضاً في إطار تحقيق رغبات الولايات المتحدة، وسعي الوسطاء لإثبات نجاحهم في ”تحقيق السلام للمشروع الأمريكي“.
السلطة الفلسطينية: تجديد الولاء
في ٢٦ آذار أي في اليوم الحادي عشر من تجدد الحرب، نظّم عدد من الفلسطينيين في بيت لاهيا في غزة وقفة مطالبة بوقف الحرب بأعداد تتراوح بين العشرين والثلاثين، إلا أنّ منتمين للسلطة الفلسطينية سارعوا إلى استغلال المشهد لتحويله وترويجه على أنه احتجاج ضد حماس، بهتافات تطالب بطردها. تداول الإعلام العبري مشاهد هذه الاحتجاجات بكثافة ودعا نشطاء الاحتلال على مواقع التواصل الاجتماعي لمزيد من نقاط التجمع ضد حماس في القطاع. خلال هذا اليوم وما تلاه شهدت مناطق متفرّقة من القطاع بعض المظاهرات على نفس الوتيرة، إلا أنّ الأعداد لم تتجاوز بضع المئات، وقابلتها حالة رفض من الغزيين على وسائل التواصل الاجتماعي واستنكار لما اعتبروه محاولة السلطة لتصدير رواية تقتلع حماس عن الشعب والشعب عن مقاومته.
لم تكتفِ مخابرات السلطة الفلسطينية بذلك فنظّمت في رام الله وقفة ”مساندة“ لمظاهرة غزة نعتت فيها حماس بالإرهابية في تماهٍ كامل مع الأجندة الصهيونية محاولة منها لتأجيج الموقف والتحريض على المقاومة.
من المفارقة أنّ السلطة الفلسطينية التي تدعو للاحتجاجات في القطاع وفي الضفة ضد حماس تمنع في الوقت ذاته المظاهرات المساندة لغزة في الضفة الغربية بل وتخرج على المتظاهرين بالرصاص الحي، ففي ١٨ تشرين الأول/أكتوبر ٢٠٢٣، قمعت الأجهزة الأمنية مسيرة في جنين مندّدة بمجزرة مستشفى المعمداني، واستشهدت حينها الطفلة رزان التركمان برصاص عناصر السلطة الفلسطينية.
جدير بالذكر أنّه وبينما تتّهم السلطة الفلسطينية حماس بالمغامرة بأرواح الغزيين وتحمّلها مسؤولية الكارثة الإنسانية التي حلّت بالقطاع نتيجة الحرب والحصار، تتمسك بموقفها الرافض للمقترح المصري بتشكيل لجنة إسناد مجتمعيّ لإدارة شؤون القطاع، والذي تقدّمت به حماس مطلع عام ٢٠٢٤ وأعادت مصر طرحه في كانون الأول/ديسمبر من العام نفسه، ولا زالت حماس تدعو حركة فتح والسلطة الفلسطينية للوصول إلى اتفاق على تأسيس اللجنة التي كان يفترض أن تشرف على جميع المجالات في القطاع بما فيها ضمان تسهيل دخول المساعدات الإنسانية إضافة إلى معالجة أضرار الحرب وعملية إعادة الإعمار.
تأتي هذه المحاولة في إطار استراتيجية الاحتلال في الضغط على المقاومة من خلال الحاضنة الشعبية والتي انتهجتها في الحرب الأخيرة كما في جولات حروبها السابقة مع غزة، والذي تبرّر على أساسه ارتكاب المجازر بدافع اغتيال قيادات أو عناصر من المقاومة لنزع شرعية وجودها على أرضها وبين أبناء شعبها. يسعى الاحتلال ووكلاؤه من خلال هذه التحركات إلى التوصّل إلى سيناريو ينقلب فيه الشعب على مقاومته بما يسمح بسحب غزة من تحت سيطرتها ونزع سلاحها و“نفي“ عناصرها.
من اللافت أن تمرّر السلطة الفلسطينية مطالبها بطرد حماس على أساس الحفاظ على الأرواح ومنع التهجير في حين أنّ إنهاء حالة المقاومة ونزع سلاحها وإرادتها تعتبر بمثابة زوال آخر عقبة أمام الاحتلال ليحكم سيطرته على كامل أرض فلسطين. لكنّ هذه المساعي لا تحفز الدهشة بقدر ما تؤكد على دور السلطة الفلسطينية كوكيل مباشر للاحتلال وأحد أكثر أذرعه فاعليةً خاصةً في الضفة الغربية.
تغذية ”فوبيا المقاومة"
ما فعلته السلطة الفلسطينية يندرج كذلك ضمن منهج إسرائيل لتغذية ”فوبيا المقاومة“ التي زرعتها لدى فئات عدة من شعوب المنطقة على رأسها السلطة الفلسطينية و“رعاة السلام“ من الأنظمة المطبّعة مع الكيان الصهيوني والمؤيدين لهم. وتهدف اسرائيل من خلالها إلى خلق حالة تنبذ فيها الشعوب الفعل المقاوم وأصحابه على أساس أنه يجلب الخراب، فتصبح الجبهات المقاومة للاحتلال بالنسبة لهؤلاء هي المسؤولة عن الجرائم الصهيونية بدلاً من الاحتلال نفسه.
على سبيل المثال، اقتحم جيش الاحتلال الإسرائيلي في الثاني من نيسان/إبريل الجاري، مخيم الدهيشة في مدينة بيت لحم، جنوب الضفة الغربية المحتلة، حيث أصيب بالاقتحام ٤ فلسطينيين واعتقل آخرون، بحسب الهلال الأحمر الفلسطيني. وخلال الاقتحام، قامت قوات الاحتلال بتوزيع مناشير على أهالي المخيم تتضمّن تهديداً يقول ”كما رأيتم بالفعل، مخيمات شمال الضفة الغربية دفعت ثمناً باهظاً بسبب نشاط الإرهاب والمسلّحين“ في إشارة للعدوان العسكري الذي تشنّه منذ ٢١ كانون الثاني/يناير على محافظتي جنين وطولكرم شمال الضفة الغربية. وأكملت ”في كل مكان فيه إرهاب تتضرر الحياة. ستعمل قوات الأمن بجميع الوسائل المتاحة لها ضد أي محاولة أو نشاط من هذا النوع.“ إنّ ما تسعى اسرائيل لتحقيقه من خلال ذلك هو نشر الخوف من حالات المقاومة حتى يتولّى جزء من الشعب نفسه مهمّة القضاء عليها أو إحباط أي مشروع مقاوم قبل قيامه خشية ”جلب الدمار“.

يتفشّى هذا الموقف الانهزامي كذلك في لبنان، وخاصّة في الفترة الحالية إذ يستغلّ أعداء المقاومة في البلاد انشغالها، أي انشغال المقاومة، في إعادة هيكلة صفوفها للترويج لخطاب تطبيعي وانهزامي، يستند إلى رواية تاريخية كاذبة لطالما روّج لها اليمين الفاشي، وباتت اليوم تتبنّاها تيارات "وسطية" وليبرالية.
وينتشر هذا الخطاب في وسائل الإعلام الرئيسية المدعومة من كبار المصرفيين اللبنانيين أو من مؤسّسات التمويل الغربية، وتبثّ هذا الخطاب حفنة من مثقّفي النظام الطائفي اللبناني، منهم على سبيل المثال، صالح المشنوق، نجل الوزير السابق وعضو تيّار المستقبل نهاد المشنوق المتورّط بقضايا فساد عدّة. وفي حين يقدّم صالح المشنوق نفسه على أنّه مثقّف ومفكّر معارض للمنظومة اللبنانية الحاكمة، إلّا أنّه انبثق في حقيقة الأمر من صلب النظام اللبناني الطائفي ويعمل على إعادة إنتاج هذا النظام ولو بصيغة تجديدية وبصورة شبابية معاصرة بنى عليها منصّته. فلا يدعو المشنوق الإبن لنسف النظام الطائفي وإعادة هيكلة الدولة اللبنانية، بل يقدّم نظرةً مغلوطةً عن الواقع اللبناني، مختزلاً مشاكل لبنان على كافّة الأصعدة، بوجود مقاومة مسلّحة في البلاد. فعند النظر إلى منشوراته، يتبيّن لنا أنّ المشنوق لا يحمل أي برنامج سياسي ولا يتبنّى أي موقف سوى ذلك الداعي لنزع سلاح المقاومة في لبنان، أي سلاح حزب الله والفصائل الفلسطينية في مخيّمات اللجوء.
ومثال آخر عن هؤلاء المثقّفين، المصرفي كريم سعيد الذي كان قد كتب مقالاً نُشر في ٣٠ أيلول/سبتمبر ٢٠٢٤ في "منتدى الشرق الأوسط"، وهو مركز أبحاث أمريكي ذات توجّه صهيوني داعم لتيار المحافظين الجدد. في هذا المقال الذي نُشر في خضمّ توسّع العدوان الصهيوني الجائر على لبنان، دعا سعيد إلى إنشاء منطقة منزوعة السلاح تمتدّ من نهر الدامور جنوب بيروت إلى حدود فلسطين المحتلّة، حيث يدّعي سعيد أنّ وجود مقاومة مسلّحة على الأراضي اللبنانية يقدّم ذريعة للكيان الصهيوني لمهاجمة لبنان. ويتّسق هذا الإدّعاء مع السردية التحريفية واللا تاريخية التي يروّج لها سعيد والمشنوق وأمثالهما من المثقّفين والمحلّلين، حيث يزعمون أنّ الاعتداءات الصهيونية على لبنان بدأت كردّ فعل على نشاط منظّمة التحرير الفلسطينية من الأراضي اللبنانية، مع أنّ الحقائق التاريخية تدحض هذه المزاعم، إذ أنّ الاعتداءات الصهيونية على لبنان بدأت منذ أوّل أيام تأسيس الكيان الصهيوني، كمجزرة حولا سنة ١٩٤٨ على سبيل المثال، وتستمرّ حتّى يومنا هذا. مؤخّراً، كوفئ سعيد لمواقفه المتصهينة، وعُيّن حاكماً لمصرف لبنان بقرار أمريكي وبدعم من عصابة المصارف.
وكان قد نبّه الشهيد نزار بنات من هذه الفئة من المثقّفين ومن الإعلاميين المرتزقة الذين يبثّون هذا الخطاب الانهزامي، حيث قال:
"جزء من صنع الهزيمة هو هندسة العقل ليقبلها، وأخطر طبقة ممكن إنها تستدخل الهزيمة بشكل منطقي وتقنع بها المجتمع هي النخب أو ما يُعرف بالمثقّفين. طبعا كتير من من يحسبون على أنهم مثقفون لا مثقفين ولا غيره، ناس بتعرف تقرأ وتكتب وتكذب، ناس عندها الوقاحة الكافية تتبنّى الموقف غير الصحيح، بأهلوهم وبيعطوهم شهادة دكتوراة وبقولولهم يلا غردوا."
كما كتب الشهيد باسل الأعرج عن خطر عملية كيّ الوعي التي يمارسها هذا النوع من المثقّفين في مقال بعنوان حرّر عقلك واهدِم صنماً، حيث قال:
"تنتهي الحرب عندما يُهزم العقل، فإذا دخلت الهزيمة العقل فأعلن انتهاء الحرب، ويبدأ الظلم بالتفشي عندما يقدم المظلوم التنازل بإعطاء السلطة للظالم, السلطة على عقله، تلك السلطة يمنحها العقل البشري ويبدأ بإعطاء مبررات للجسد لتقديم التنازلات الواحدة تلو الأخرى، إلى أن يصل به الحال لقبول الوضع القائم ويبدأ ببناء فلسفة جديدة تسمى بـ العقل الكولونيالي أو عقل المظلوم أو عقل المضطهَد، وتتجلى أهم معالم هذه الفلسفة بالشعور بالدونية وإعطاء مبررات مقنعة لقبول الظلم وإهانة الكرامة."
وهنا تكمن أهمّية بثّ خطاب مضادّ يدحض هذه الإدّعاءات الكاذبة وينسف الدعاية الانهزامية والتطبيعية.
تحييد الدور الشعبي: الأردن ومصر كمثال
ربما يخيّم بعد تجدد حرب الإبادة شبح الطريق المسدود، ليس لأنّ إسرائيل أقوى من أن تُهزم، ولا لأنّ المقاومة أضعف من أن تنتصر. يكمن الخلل في تكرار المشهد الخارجيّ بحذافيره، والذي حيّد على مدار الحرب الدور الشعبي للمد العربي والإسلامي لفلسطين. إنّ دعوات المقاومة المتكررة للنفير وازديادها بعد تجدد الحرب ليست عبثية، بل لأنها تدرك تماماً قدرة الشعوب خاصة في دول الطوق على تشكيل ورقة ضغط حقيقية تمكّن المقاومة من استغلالها في موقفها السياسي على أقل تقدير.
شهد الأردن حراكاً شعبياً واسعاً مع بداية حرب الإبادة على غزة، حيث تظاهر الأردنيون في محيط السفارة الإسرائيلية في عمّان مطالبين الحكومة الأردنية بإسقاط اتفاقية وادي عربة واتفاقيات الغاز و“فتح الحدود“ مع فلسطين المحتلة وتقديم الدعم العسكري لغزة، إلا أنّ السلطات واجهت هذا الحراك بالقمع والتضييق من خلال موجة اعتقالات واسعة وصلت إلى اعتقال ما لا يقل عن ١٥٠٠ شخص بحسب منظمة العفو الدولية، إضافة إلى إغلاق الطرق المؤدية للسفارة ونشر أعداد كبيرة من قوى الأمن في محيطها، ووصلت التضييقات إلى حظر هتافات معينة ومنع رفع الأعلام ولافتات محددة ومنع وصول من هم دون سن ١٨ إلى مكان التظاهر. هذه التظاهرات كانت تسعى عملياً لحصار سفارة ”فارغة“ بعد مغادرة السفير الصهيوني وطاقم السفارة إلا أنّ الحكومة الأردنية وجدت في هؤلاء الشبان مصدر تهديد. على خلفية الإجراءات القمعية بات أمر الحشد أصعب فأصعب حتى وصلت الأعداد إلى ما لا يزيد عن ٢٠ بشكل يومي.
وإذ يثير في عمّان مكان التظاهر محل خلاف كبير، تدعو عادة الأحزاب والنخب المقربة من الحكومة إلى أماكن غير ذات تأثير كالساحات العامة و“وسط البلد“ بدلاً من السفارة الصهيونية والأمريكية ومجمع النقابات المهنية وغيرها. بعد تجدّد الحرب في ١٨ آذار/مارس، حاول القائمون على هذا الحراك إعادة إنعاشه من خلال الدعوة للتظاهر أمام السفارة الأمريكية وباستجابة لدعوة حصار السفارات من قبل المقاومة، إلا أنّ قوى الأمن كانت في استقبالهم ومنعت وصولهم إلى نقطة التجمع قرب مسجد عباد الرحمن- الأقرب للسفارة الأمريكية.
المثير للاهتمام أنّه مع قمع السلطات لهذه التظاهرات إلا أنها تداولت ودعمت عبر إعلامها الرسمي لحشود مماثلة في ساحة وسط البلد بعد مخطط ترامب لتهجير سكان غزة وتحويلها بحسب تعبيره إلى ”ريفييرا الشرق الأوسط“، الأمر الذي أكد مدى وعيها لقدرة استخدامها الرفض الشعبي ورقة سياسية لتحقيق رغباتها، أما مطالب وقف الحرب وإسقاط اتفاقيات التطبيع ووقف الجسر البري مع الاحتلال فلا تحظى بمكان على قائمة مصالحها.
وبالرغم من المسؤولية الخاصة التي تقع على عاتق مصر لإغلاقها معبر رفح الفلسطيني-المصري، إلا أنها شهدت حالة مماثلة بفارق خلو الساحة من الحراكات بعد أن تم اعتقال ٧٩ شخصاً في تظاهرات خرجت منذ أكتوبر/ تشرين الأول ٢٠٢٣. وبنفس المشهد، رعت السلطات المصرية مسيرة شعبية قرب معبر رفح بعد بدء ترامب ترويجه لمخطط تهجير الفلسطينيين إلى مصر والأردن.
يشكّل غياب الحراك الشعبي المنظم حالة ضعف للموقف الفلسطيني الذي يتطلّب التفافاً حول المقاومة التي تحتاج أكثر من أي وقت مضى لإمكانية المراهنة على عامل ضغط جدّي لا تحكمه الحصانة الأمريكية ولا المواقف الرسمية الضعيفة أو العاجزة التي تحاول تصديرها الأنظمة المطبّعة والتابعة. حيث يمكن إذا تم الاستثمار في تحرك شامل جدّي أن يوفر للمقاومة ”الضامن“ لوقف شامل للحرب على الأقل وهو ما يهدد غيابه أي صفقة ويهدّد مصالح المقاومة وتطلعاتها لغزة ومستقبل القضية الفلسطينية بوجه المخطط الذي يهدف لتصفيتها.
الخاتمة: من يوقف الحرب؟
تستمر المقاومة اليوم بمحاولة إرغام الاحتلال على وقف إطلاق النار من خلال إبداء مرونة في المفاوضات غير المباشرة، فقد صرّحت حماس في ٣٠ آذار/مارس بموافقتها على مقترح جديد قدّمته قطر ومصر مؤكدة تعاملها معه بإيجابية ومسؤولية بهدف الوصول إلى وقف الحرب.
لقد أثبتت المقاومة حرصها على وقف الحرب في كل المراحل وهو ما يمكننا قراءته في تعاملها مع مقترحات وقف إطلاق النار وفي التزامها بكامل البنود رغم خرق الاحتلال المستمر لها، وفي محاولتها تسهيل إجراءات الإغاثة الإنسانية من خلال مرونتها مع فكرة تشكيل لجنة إسناد مجتمعي تكون طرفاً فيها مع حركة فتح بالرغم من جهود الأخيرة الحثيثة لشيطنتها. وعليه، فإنّه من المستغرب أن يحمّل أي طرف مسؤولية عودة الحرب للمقاومة، كما مسؤولية وقفها. يصبح السؤال المنصف هنا، من يوقف إسرائيل والعنجهية الأمريكية؟ إنّ الأسئلة الكبيرة غاية في الأهمّية، لكنها تفقد جدواها حين تقف عند حدّ السؤال، فما بعده؟ قد نملك جزء أو أكثر من الإجابة.
بعد أن عرّى السابع من أكتوبر الحكومات العربية المتواطئة مع المصالح الصهيوأمريكية، برزت مجدداً الفجوة بين المواقف الرسمية للأنظمة والمواقف الشعبية، لكنّ تلك الفجوة تحتاج اليوم لأن تثبت نفسها وتحتاج الشعوب لأن تؤمن بقدرتها وتقول كلمتها، أن تقول لا لمن مدّ يده للاحتلال أو منعها عن المقاومة، من حارب من أبناء شعبه كل من أبى أن يكون في صفّ الاحتلال الصهيوني وأعوانه، فكما قال الحكيم جورج حبش ”إنّ خير ما تقدّمونه للقضية الفلسطينية هو النضال ضدّ أنظمتكم الرجعية“.