تسليح الإعاقة: استراتيجية الكيان الصهيوني لإضعاف غزّة

فاڤا
February 17, 2025

مدخل إلى نظرية الإعاقة

تمثّل دراسات الإعاقة مجالاً ناشئاً حديثاً في الأوساط الأكاديمية الغربية، وهو مجال نظري وعدالة يركز على الحقوق والإدماج لجميع أنواع الأجسام. نشأت دراسات الإعاقة من رحم النضال الاجتماعي والاحتجاج من أجل المساواة. في المجتمع الغربي، أوجد الفهم الاجتماعي للإعاقة معياراً لما تبدو عليه الأجساد وما هي قادرة عليه. الأجساد المنتجة بالكامل فقط هي التي لها قيمة في المجتمع الغربي، ومن هنا نشأت أقلية تضم أفرادًا يعانون من إعاقات تقوض قدرتهم على الإنتاج. وكغيرها من الحركات الاجتماعية الغربية البارزة في أواخر القرن العشرين، نشأت مجتمعات مزدهرة انبثقت من حركة عدالة الإعاقة، مع التوصل إلى إدراك أن قدرات الفرد الإنتاجية لا تحدد قيمته الإنسانية. على سبيل المثال، خلقت القوانين المختلفة التي صدرت في الولايات المتحدة في عام ١٩٩٠، مثل قانون "الأمريكيين ذوي الإعاقة"، حقوقاً قانونية لجميع الأجسام. في الوقت الحاضر في الغرب، يتمّ تضمين الإعاقة في ندوات التنوّع والمساواة والإدماج (DEI)، ويُطلب من معظم المباني العامة أن تحتوي على منحدرات ومصاعد، ولا يمكن لأصحاب العمل قانونياً التمييز بحق عمالهم بسبب أي شكل من أشكال الإعاقة التي قد يعانون منها.  

ليس هذا هو الحد الأقصى لنظرية الإعاقة، فهي نظرية واسعة النطاق ويمكن تطبيقها في كل شكل آخر من أشكال العدالة. ولكن، في أعقاب الليبرالية الجديدة للاقتصاد العالمي في التسعينيات، أصبحت الحركة من أجل حقوق ذوي الإعاقة تركّز على الإدماج والوصول إلى مكان العمل والمؤسّسات العامة. وعلى الرغم من أنّ هذه خطوة تقدّمية تاريخياً، إلا أنّها جعلت تركيز الحركة منصباً على الاندماج في المجتمع القادر بدلاً من التعامل مع تناقضات النظام الاقتصادي على المستوى المنهجي الذي اعتبر أجساداً معينة تفتقر إلى القيمة. ومن الأمثلة على التناقضات التي تتجلّى في النظام الاقتصادي الإمبريالي: يعتبر ١٥٪ من سكّان العالم من ذوي الإعاقة، إلّا أنّ ٨٠٪ من هذا العدد يعيشون في دول الجنوب. لقد جرّدت قرون من الاستعمار والإمبريالية أجزاء كبيرة من العالم من مواردها الطبيعية، تاركةً الأجيال القادمة بلا شيء، باستثناء النضال من أجل رأس المال والفرص. ومن ثم تصبح الإعاقة أكثر من مجرد هوية اجتماعية، بل هي التداعيات المادّية للإمبريالية الغربية على أجساد الأفراد.

"الحقّ في الأذى"

مع أخذ ما سبق في الاعتبار، ينبغي إيلاء المزيد من الاهتمام لواحد من أحدث المشاريع الاستعمارية الاستيطانية وهو احتلال فلسطين. يبحث الكتاب الوحيد الذي نُشر ضمن دراسات الإعاقة حول فلسطين "الحق في الأذى: الوهن والقدرات والإعاقة" لجاسبير ك. بوار، الصادر عام ٢٠١٧، في الروابط بين الاحتلال الاستعماري لفلسطين وعدالة الإعاقة والعنصرية المنهجية في الولايات المتحدة. تعمل بوار أستاذة ومديرة قسم دراسات المرأة والجندر في جامعة روتجرز. تتطرّق بوار إلى فيرغسون (مدينة أمريكية شهدت حراكًا احتجاجيًا ضخمًا على إثر مقتل مايكل براون برصاص الشرطة، وقابل الحراك قمع بوليسي عنيف) وغزة في صيف ٢٠١٤؛ عندما تزامنت عملية الجرف الصامد الصهيونية، وهي عملية حصار على غزة استمرت ٥١ يوماً، مع مقتل مايكل براون في فيرغسون بولاية ميسوري. في كلتا الحالتين، حشدت الدولة قوات عسكرية لاحتلال سكّان يعبّرون عن اضطرابات شعبية. يكمن الفرق في استراتيجيات السيطرة؛ فالشرطة الأمريكية لا تتردد في زخ الرصاص بأجساد السود والسمر للحفاظ على الوضع القائم. أما إسرائيل، كقوّة استعمارية استيطانية، فعليها أن تستخدم استراتيجية مختلفة ضدّ من تستعمرهم.  

المفهوم الرئيسي الذي تحدّده بوار في هذا الكتاب هو الوهن. والوهن هو التسبّب المستمرّ في إصابات وإعاقات دائمة للسكّان بهدف الحدّ من الحركة والمقاومة. يشترك الوهن مع مفهوم "تقويض التنمية"، وهي استراتيجية اقتصادية تمارسها القوى الإمبريالية تهدف إلى الحدّ من النمو المالي للاقتصاد. ولكي تقوم دولة إسرائيل لا يمكن أن تقوم فلسطين. فعلى مدى السنوات الـ٧٥ الماضية، انخرطت إسرائيل في عملية إضعاف منهجية لأجساد الفلسطينيين وتقييد وصولهم إلى الموارد من أجل الحفاظ على السيطرة على السكّان من خلال الحدّ من القدرة على المقاومة، بهدف القضاء على جميع الفلسطينيين في نهاية المطاف والتوسّع في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وقد استُخدمت سياسة الإضعاف ضدّ العديد من الدول والأنظمة التي تقاوم الإمبريالية، مثل كوبا والاتّحاد السوفييتي وإيران. تحاجج بوار بأن الدولة الإسرائيلية تتبنّى "الحق في أذية" أجساد الفلسطينيين ومواردهم للحفاظ على سلطتها كدولةٍ مخوّلة من المجتمع الدولي.

وليد دقة

هناك الوهن الأبرز الذي يصيب الجسد البشري، وتدمير الموارد العامّة والبنية التحتية، وأخيراً الوهن النفسي. ومن أبهى الأمثلة على الوهن النفسي والجسدي في آنٍ معاً يحضر وليد دقة، وهو ناشط فلسطيني سجين كتب عن القضية الفلسطينية. اعتُقل وأُدين في عام ١٩٨٦ بتهمة قتل جندي إسرائيلي، وأمضى السنوات الـ ٣٧ التالية في السجن حتى استشهاده في ٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤. وطوال فترة سجنه، كتب على نطاق واسع عن الوهن العقلي الذي يعاني منه الأسرى الفلسطينيون. هناك تاريخ طويل من اعتقال المتظاهرين والنشطاء في فلسطين من قبل إسرائيل والسلطة الفلسطينية. فمنذ عام ١٩٦٧ وحتى عام ٢٠٢٣، أمضى مليون فلسطيني فترة في السجون الإسرائيلية، أي حوالي واحد من كل خمسة فلسطينيين. إنّ حبس الفلسطينيين في السجن يتيح للمحتلّين إمكانية الوصول المباشر والسيطرة على عقول وأجساد السجناء السياسيين. هناك تقارير ووثائق موسّعة عن العنف الجنسي والإساءة الجنسية التي يتعرّض لها الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية. كما يتعرّضون للتعذيب الجسدي والنفسي، ويوضعون في الحبس الانفرادي شبه الدائم، ويتلقّون أحكاماً مطوّلة على مخالفات بسيطة، ويحظون بعدد زيارات محدود للغاية. استشهد دقّة بسبب إصابته بالتليف النخاعي، وهو شكل من أشكال سرطان النخاع العظمي، وقد حُرم من العلاج المنتظم. ومن المعروف أنّ الكيان الصهيوني يماطل في تقديم الرعاية الطبية للسجناء، ويرفض توفير الأطباء المتخصّصين بشكل منتظم. هذا الشكل من أشكال الإضعاف، وحجب الرعاية الطبية التي يحتاجها الأسرى، هو طريقة أخرى لتجنّب قتل الأسرى مباشرةً عن طريق تركهم يموتون.  

وطوال حياة دقّة في السجن، ساهم في حركة المقاومة بالمقالات والرسائل وكتب الأطفال. من أشهر أعماله "صهر الوعي"، عن التعذيب الذي يتعرض له الأسرى الفلسطينيون، ورواية "حكاية سر الزيت"، وهي رواية لليافعين عن صبي صغير يستخدم زيت الزيتون السحري لزيارة والده في السجن، وقصص قصيرة مثل "عمي أعطِني سيجارة". كتب عن أهميّة فهم مصدر العنف والنضال الذي يواجهه الفلسطينيون، ويتحدّث عن مدى سهولة الوقوع في اليأس والرغبة في الاستسلام بسبب عقبات الاحتلال. إنّ فهم التكتيكات المختلفة لعنف المحتلّين وحربهم النفسية أمر ضروري للردّ على هذه القوى. تتشابه كلماته مع كلمات الكاتب الماركسي الثوري فرانتز فانون في كتابه "معذّبو الأرض". كان فانون طبيباً نفسياً عالج كلّاً من المستعمِرين والمستعمَرين في الجزائر أثناء النضال الثوري من أجل الاستقلال عن الفرنسيين. ويوضح الكتاب الآثار النفسية الضارّة التي تركها النضال ضدّ الاستعمار على عقول الجماهير المستعمَرة، والوهن الذي كان يمارسه المستعمِرون على المستعمَرين عن طريق التعذيب. "ولأنّه نفي ممنهج للآخر، وإصرار محموم على نزع أي صفة إنسانية عن الآخر، فإنّ الاستعمار يجبر المستعمَر على التساؤل باستمرار "من أنا في الواقع؟". إنّ التعذيب والسجن الذي تمارسه إسرائيل بحقّ الفلسطينيين يهدف إلى تجريدهم من إنسانيتهم وتثبيطهم وتدمير أي روح ثورية موجودة عند المستعمَر. تحاكي كتابات دقّة صدى كتابات فانون وتجسّد الحرب النفسية التي يجب على الفلسطينيين تحمّلها وآثارها المنهكة. يقول إنّ السجن يهدف إلى تدمير الذات كلّها، وهو موضوع متكرّر في الاحتلالات الاستعمارية والحروب الثورية المضادّة، مثل ما شهده فانون في الجزائر. يقول دقّة في كتابه "صهر الوعي": "لا يهدف السجن الإسرائيلي إلى حبس الجسد فحسب، بل إلى تآكل الروح، وتفتيت الروابط بين السجين وأمّته، وإعادة بناء وعيه لتقويض المقاومة والسلطة". وهذا التكتيك ناجح إلى حد ما بالنظر إلى العدد الكبير من العملاء الفلسطينيين على مدى العقود الماضية. فالسجون الإسرائيلية معدّة لتعطيل العمل الثوري وإفقاد المستعمَرين الأمل في التحرر.

تركهم على قيد الحياة أو تركهم يموتون؟

على مدار العقود الماضية، عُرف عن جيش الإحتلال الصهيوني اتّباعه لاستراتيجية "الترك على قيد الحياة" مع المدنيين في غزّة. من خلال التشويه عوضاً عن القتل، يمكن لجيش الاحتلال أن يجني فوائد تقديم نفسه كدولة إنسانية بينما يحتلّ أرضاً مسروقة بشكل غير قانوني. فالتشويه يقلّل من معدّلات إنتاج السكان، ويقلّل من إمكانية الوصول إلى الأرض، ويوقف نموّ المجتمع بشكل عام. لم يشعر الكيان الصهيوني بالحاجة إلى إبادة الجميع للحفاظ على سيطرته على المنطقة عندما يتّبع سياسة التشويه بصورة ممنهجة. هناك عدد لا يحصى من الطرق التي يستخدمها جيش الاحتلال لإضعاف الفلسطينيين. فخلال الانتفاضة الأولى، طلب وزير الدفاع الصهيوني آنذاك، إسحاق رابين، من قادته خلال الانتفاضة الأولى أن "يكسروا عظام" الفلسطينيين. وقد تمّ توثيق هذه السياسة لأوّل مرّة على شريط فيديو في عام ١٩٨٨، إذ تعرّض فلسطينيان للضرب لأكثر من نصف ساعة مستمرّة على يد جنود جيش الاحتلال بالحجارة والقبضات وحتّى بخوذاتهم. وقد اقتيدا إلى مركز احتجاز، حيث كان من المؤكد أنّهما كانا سيُتركان ليموتا، لولا تداول الفيديو الذي شكّل ضغطاً على الكيان لإطلاق سراحهما دون أن توجّه إليهما أي تهمة. يتعرّض الفلسطينيون لإطلاق النار أو الضرب ثمّ الاحتجاز، ثم يتلقّون رعاية طبية بمراحل متأخّرة للغاية، مما يتسبّب في ارتفاع معدّلات بتر الأطراف. كما ترفض إسرائيل بانتظام منح الفلسطينيين في غزّة تصاريح السفر للحصول على الرعاية الطبية في الضفّة الغربية، حيث يوجد أطباء أكثر تخصّصاً. ولا يستطيع الفلسطينيون المغادرة دون إذن إسرائيلي. عند قصف المنازل، يدّعي الجيش الإسرائيلي أنه يتصرّف بإنسانية من خلال سياسة "الطرق أولاً". فهم يطلقون صاروخاً صغيراً في مكان قريب لإعطاء المدنيين فرصة لإخلاء منازلهم قبل الهجوم الرئيسي. وغالباً ما يتمّ إطلاق الهجوم التحذيري قبل أقلّ من دقيقة من الهجوم النهائي. في المنازل متعدّدة الأجيال التي تضمّ مدنيين منهكين وكبار السن والأطفال، فإن التحذير قبل دقيقة واحدة غير كافٍ. إنّ الحرمان من الرعاية الطبّية يخلق المزيد من الأشخاص الذين لا يستطيعون المغادرة أو المقاومة.  

لا يحتاج جنود الجيش الإسرائيلي إلى قتل جميع الفلسطينيين، فبإمكانهم فقط إطلاق النار على نصفهم في الركبتين، وقطع الموارد، وتركهم يموتون جميعاً وهم يحاولون النجاة أو المغادرة. التشويه هو تكتيك معتمد في الحكم الاستعماري الاستيطاني. أثناء تغطية الإعلام الصهيوني للعنف الذي يمارسه جيش الاحتلال يعرف الإعلام الإسرائيلي أن الأضرار الجانبية تحسب القتلى وليس الإصابات. فهي تحتاج فقط للإبلاغ عن ٣ قتلى في القصف،، دون ذكر ١٠٠ إصابة خطِرة. قال أحد القنّاصين الإسرائيليين، وهو الرقيب راز من كتيبة ناشون، في مقابلة أجريت معه: "لقد أطلقت النار على شخصين ... في ركبتيهما. كان من المفترض أن تكسر عظامهما ويتمّ تحييدهما وليس قتلهما". إنّ تشويه الفلسطينيين المقترن بالتدمير المنهجي للبنية التحتية، وحجب الموارد، ومنع الرعاية الطبية لعقود، يبقي المستعمَرين الفلسطينيين في حالة من التخلّف. إنّ قوّة الاحتلال لا تضعف الأجساد القادرة على المقاومة فحسب، بل تضعف المشهد المادّي نفسه لإعاقة نموّ الاقتصاد كشكل من أشكال التراجع التنموي. وبشكل عام، كانت استراتيجية الإنهاك تعمل بشكل جيد بالنسبة لإسرائيل. فاعتباراً من عام ٢٠١٩، بلغ عدد المعاقين الفلسطينيين ٩٣ ألف شخص، خُمسهم دون سنّ ١٨ عاماً. نصفهم، أي حوالي ٤٧ ألف شخص، يعانون من إعاقة حركية. ٩٠٪ من المعاقين في فلسطين عاطلون عن العمل.

في الجانب الاقتصادي من الوهن، عملية تقويض التنمية. وقد ذُكر مصطلح "تقويض التنمية" في هذه الورقة البحثية، فهو تكتيك اقتصادي شائع جداً تستخدمه القوى الإمبريالية الغربية، يتداخل مع إضعاف الجسم المستعمَر. يسلّط مقالٌ من عام ١٩٩٩ الضوء على استراتيجية تقويض التنمية التي يستخدمها الكيان الصهيوني منذ اتّفاق أوسلو عام ١٩٩٣. وتستخدم إسرائيلُ نزعَ الملكية، والتخارج، وإلغاء المؤسسات، والإغلاق. ينطوي نزع الملكية على استيلاء إسرائيل تدريجياً على الموارد مثل الأراضي الزراعية والمياه والطرق والحدود وغيرها من البنى التحتية الأساسية للنمو الاقتصادي. ثم مارست إسرائيلُ بعد ذلك عمليةَ الاستيلاء الخارجي من خلال دمج الاقتصاد الفلسطيني في اقتصادها، عبر توفير فرص العمل وإعادة توجيه التجارة إلى داخل فلسطين المحتلّة. وتمّ ذلك حتّى يكون النمو الاقتصادي الفلسطيني معتمداً كلياً على الاقتصاد الصهيوني. كما تقوّض السياسة الإسرائيلية النموّ المؤسّسي مثل المؤسّسات الائتمانية والمالية والتعليم والصحّة والهياكل الحكومية بحيث لا مجال للإصلاح دون موافقة إسرائيل. فُرض الإغلاق لأول مرة بصورة دائمة في ١٩٩٣. ويشمل الإغلاق تقييد حركة الفلسطينيين بين الضفة الغربية وقطاع غزة وتقييد حركة البضائع والعمالة المستوردة والمصدرة. وبسبب القيود الأمنية الصهيونية والقيود المفروضة على السفر، فإنّ البضائع المصدّرة، ولا سيما المنتجات الزراعية، باهظة الثمن وبالكاد يتمّ تسليمها في الوقت المحدّد إن تمّ تسليمها أصلاً. وبما أنّ الاقتصاد الفلسطيني يعتمد على إسرائيل، فإنّ الإغلاق يوقف فعلياً الدخل والتجارة من دخول الضفّة الغربية وقطاع غزّة. وقد أدّى الإغلاق إلى ارتفاع معدّلات البطالة، إذ أنّ حوالي ٧٠٪ من القوى العاملة في غزّة كانت تعمل في إسرائيل قبل عام ١٩٩٣. "ومن المستبعد جداً أن تعود مستويات العمالة إلى مستوياتها التاريخية (ما قبل الانتفاضة)، وهو واقع يؤكده استيعاب الكيان الصهيوني لأكثر من ٢٠٠ ألف عامل أجنبي قانوني وغير قانوني من أوروبا الشرقية وجنوب آسيا". وعموماً تسيطر إسرائيل سيطرةً كاملة على الاقتصاد الفلسطيني من أجل خنق أي محاولات للمقاومة. لا يمكن للفلسطينيين أن يقاوموا مستعمِرهم إذا كانوا يكافحون من أجل إطعامهم وإسكانهم.

التحوّل من التشويه إلى القتل

منذ بدء حرب الإبادة على غزة في ٧ تشرين الأوّل/أكتوبر ٢٠٢٣، تغيّرت تكتيكات الإنهاك الصهيونية. وبذريعة القضاء على تهديد حماس، أطلق جيش الاحتلال دماراً شاملاً على غزّة بموافقة الغرب ومساعدته المالية والعسكرية. وقد أدّى هذا التبرير إلى واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في التاريخ الحديث. فحتّى تاريخ ٣ شباط/فبراير ٢٠٢٥، قُتل ما لا يقلّ عن ٦١٧٠٩ إنسان على يد جيش المحتلّ، من بينهم ١٧٤٩٢ طفلاً. كما أصيب ١١١٥٨٨ إنسان بإصابات خطيرة، وهناك أكثر من ١٤٢٢٢ إنسان في عداد المفقودين الذين من المتوقّع أنّهم لقوا حتفهم. حتى تاريخ ١٥ كانون الثاني/يناير ٢٠٢٥، وفقاً لمنظّمة الصحّة العالمية والحكومة الفلسطينية، تضرّرت أو دُمّرت جميع منازل غزّة تقريباً. وتضرّرت أو دمّرت ٨٠٪ من المنشآت التجارية، و٨٨٪ من المباني المدرسية، و٦٨٪ من شبكات الطرق، و٦٨٪ من الأراضي الزراعية. ولم يبقَ سوى نصف المستشفيات فقط يعمل ولو بشكل جزئي. بين تشرين الأوّل/أكتوبر وكانون الأوّل/ديسمبر ٢٠٢٣، فقد ألف طفل إحدى ساقيه أو كلتيهما. تضمّ غزّة حالياً أكبر عدد من الأطفال المبتورة أرجلهم في العالم. وقد نزح كلُّ شخص في قطاع غزّة تقريباً، ونزح العديد منهم عدّة مرّات بسبب الصواريخ التي أسقطها جيش الاحتلال على مخيّمات اللاجئين التي تمّ تشكيلها حديثاً. وانتشرت المجاعة والأمراض على نطاق واسع، وظهرت أمراض الزحار وشلل الأطفال في المخيّمات التي لم يكن يتوفّر فيها سوى القليل من المياه النظيفة والحمامات المناسبة. ولدى العديد من الوكالات الحكومية أدلة على قيام إسرائيل بمنع وحجب المساعدات عن القطاع، وهو ما تجاهلته إدارة بايدن.

برنامج "لافندر" للذكاء الاصطناعي وبرنامج "أين بابا (Where's Daddy)"

من أكثر الملامح الدالة على تصاعد العنف في التكتيكات الإسرائيلية تجاه غزّة هو ظهور برنامج الذكاء الاصطناعي لتحديد "عملاء حماس". ويشمل العملاء كل من يساعد في تحقيق أهداف حماس في نظر الكيان الصهيوني من إداريين مدنيين ومهندسين وأكاديميين ومسعفين وصحفيين. يتمّ استهداف هؤلاء العاملين المدنيين لأنهم ضروريون لإدارة المجتمع بفعالية. نشر مقال في مجلة 972 قصّة برمجيات الذكاء الاصطناعي في أوائل نيسان/أبريل ٢٠٢٤. وبرنامج "لافندر" للذكاء الاصطناعي هو برنامج يقوم بوضع علامة على الفلسطينيين كعملاء لحماس، إلى جانب برنامج "أين بابا" الذي يتتبّع متى يعود صاحب العلامة إلى بيته. نظراً لأنّ العنوان المدرج للمواطن هو أسهل مكان لتوجيه ضربة بطائرة بدون طيار، فإنّ هذا يعني أيضاً أنّ عائلات بأكملها يتمّ القضاء عليها عندما يعود الهدف إلى المنزل. الغالبية العظمى من الأضرار الجانبية لهذه الهجمات هم من النساء والأطفال وكبار السن من أفراد الأسرة. بعد السادس من تشرين الأوّل/أكتوبر، تمّ استهداف أكثر من ٣٧ ألف فلسطيني بواسطة البرنامج، حيث يقضي الجندي الإسرائيلي البشري حوالي ٢٠ ثانية فقط لكلّ شخص قبل الموافقة على الضربة. يبلغ هامش الخطأ في البرنامج أكثر من ١٠٪. "وفي خطوة غير مسبوقة، بحسب اثنين من المصادر، قرّر الجيش أيضاً خلال الأسابيع الأولى من الحرب أن يقوم لافندر بوضع علامة على كل ناشط صغير من حماس يسمح بقتل ما يصل إلى ١٥ أو ٢٠ مدنياً. في الماضي لم يكن الجيش يسمح بأي "أضرار جانبية" خلال عمليات اغتيال المسلحين ذوي الرتب المتدنية. وأضافت المصادر أنه في حال كان المستهدف مسؤولاً كبيراً في حماس برتبة قائد كتيبة أو قائد لواء، فقد أجاز الجيش في عدّة مناسبات قتل أكثر من ١٠٠ مدني في عملية اغتيال قائد واحد".  

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، بدأ جيش الاحتلال عملية "سيوف الحديد"، وهي عملية اجتياح برّي وهجوم على قطاع غزّة بهدف معلن هو القضاء على حماس وتحرير الرهائن. وبموجب هذه العملية، فإنّ جميع عناصر حماس مؤهّلون للاستهداف، إذ تقوم برامج الذكاء الاصطناعي بأتمتة العملية برمّتها. يستهدف النظام الأشخاص من خلال تصنيف كل شخص من ١-١٠٠ بناءً على ميزات معيّنة؛ مثل تغيير العناوين أو أرقام الهواتف بشكل متكرّر أو التواجد في نفس مجموعة الدردشة الجماعية مع هدف آخر. تمّ إعادة تخصيص العديد من جوانب نظام المراقبة الإسرائيلي الذي كان موجوداً منذ عقود لاستهداف حماس. فقد توقّف الجيش عن التحقّق يدوياً ممّا إذا كان العملاء في منازلهم قبل توجيه الضربات، ممّا أدّى إلى تدمير العديد من المنازل وقتل العائلات بينما لم يكن المسؤول المستهدف موجوداً في المنزل. كانت هذه الممارسة شائعة في الأشهر القليلة الأولى من الحرب، ولكن مع النزوح أصبح من الصعب جداً تعقّب العملاء باستخدام الهواتف المحمولة وعناوين المنازل فقط، إذ تمّ تدمير العديد من المنازل أو إخلاؤها.

الخاتمة

توفّر عدسة نظرية الإعاقة نظرة ثاقبة لتكتيكات المستعمِر في الاستعمار. وكما قال وليد دقّة، فإنّ فهم المستعمِر ضروري لهزيمته. خلال الحرب، لم يعد الاحتلال يطلق النار ليشوّه بل يطلق النار ليقتل، والهدف الأسمى هو ضمان عدم قدرة الفلسطينيين على حكم أنفسهم بأنفسهم. خلال العقد الماضي، كانت إسرائيل تعمل كما لو أنّ حماس لم تعد عاملاً مؤثراً. غيّرت هجمات ٧ أكتوبر ديناميكيات الاحتلال بشكل جذري. فقد أرغمت حماس إسرائيل على الدخول في قتال مباشر مع مقاتلي حماس بدلاً من استهداف المدنيين بشكل دوري فحسب. ولتحقيق التحرير، تهدف الحركات الفدائية الثورية إلى شحذ التناقضات من أجل دفع السكّان إلى العمل الثوري. لقد أصبحت المقاومة عدواً شرعياً للمحتلّين، ممّا أجبرهم على الانخراط في القتال بدلاً من الوهن البطيء الذي يفضّله المستوطنون المعاصرون. إنّ التشويه هو الأفضل للمحتل لأنّه يحافظ على الوضع القائم بينما يسمح بالتوسّع التدريجي للمستعمر. ومن خلال تغيير معادلة الاحتلال، فتحت حماس طريقاً للتحرير وأوقفت التوسّع الإسرائيلي. كانت المقاومة تعي جيداً المخاطر والانتقام الحتمي، ولكنّها تعلم أيضاً أن المقاومة المسلّحة هي السبيل الوحيد للوصول إلى التحرير.

المراجع

AJLabs. “Israel-Gaza War in Maps and Charts: Live Tracker.” Al Jazeera, February 3, 2025. https://www.aljazeera.com/news/longform/2023/10/9/israel-hamas-war-in-maps-and-charts-live-tracker 

Al Jazeera. “Terminally Ill Palestinian Prisoner Walid Daqqa Dies in Israeli Custody.” Al Jazeera, April 7, 2024. https://www.aljazeera.com/news/2024/4/7/terminally-ill-palestinian-prisoner-walid-daqqa-dies-in-israeli-custody.  

Al Jazeera. “Why Are So Many Palestinian Prisoners in Israeli Jails?” Al Jazeera, October 8, 2023. https://www.aljazeera.com/news/2023/10/8/why-are-so-many-palestinian-prisoners-in-israeli-jails.  

“Annual Violations Report 2022.” Addameer, September 27, 2023. 

“Factsheet on Persons with Disabilities.” United Nations. Accessed February 6, 2025. https://www.un.org/development/desa/disabilities/resources/factsheet-on-persons-with-disabilities.html.  

Fanon, Frantz. The Wretched of the Earth. New York, NY: Grove Press, 2004. 

Hammad, Shatha. “Stories from the First Intifada: ‘They Broke My Bones.’” Al Jazeera, December 10, 2017. https://www.aljazeera.com/news/2017/12/10/stories-from-the-first-intifada-they-broke-my-bones

Iraqi, Amjad. “‘Lavender’: The AI Machine Directing Israel’s Bombing Spree in Gaza.” +972 Magazine, April 25, 2024. https://www.972mag.com/lavender-ai-israeli-army-gaza/.  

“Israel/Opt: Horrifying Cases of Torture and Degrading Treatment of Palestinian Detainees amid Spike in Arbitrary Arrests  .” Amnesty International, November 10, 2023.  https://www.amnesty.org/en/latest/news/2023/11/israel-opt-horrifying-cases-of-torture-and-degrading-treatment-of-palestinian-detainees-amid-spike-in-arbitrary-arrests/?utm_source=chatgpt.com.  

Kadri, Ali. “Preface.” Brill, July 14, 2023. https://brill.com/display/book/9789004548022/front-7.xml?language=en.  

Kaloti, Rasha. “Palestinian Prisoners and Detainees Lack Basic Access to Health Care in Israeli Prisons.” ImpACT International, September 3, 2020. https://impactpolicies.org/news/165/palestinian-prisoners-and-detainees-lack-basic-access-to-health-care-in-israeli-prisons.  

Murphy, Brett. “Blinken Rejected Officials Who Concluded Israel Deliberately Blocked Humanitarian Aid to Gaza.” ProPublica, September 24, 2024. https://www.propublica.org/article/gaza-palestine-israel-blocked-humanitarian-aid-blinken.  

Omer, Mohammed. “Who Are Israel’s Palestinian Informants?” Al Jazeera, September 6, 2014. https://www.aljazeera.com/news/2014/9/6/who-are-israels-palestinian-informants.  

Palestine Central Bureau of Statistics, 2019. https://www.pcbs.gov.ps/portals/_pcbs/PressRelease/Press_En_3-12-2019-dis-en.pdf

Popular Front for the Liberation of Palestine. Strategy for the Liberation of Palestine. Utrecht, Netherlands: Foreign Language Press, 2017. 

“Press Release: New Study of Satellite Data Shows: Israel’s Assault on Hospitals, Schools, and Water Infrastructure in the Gaza Strip Was Not ‘Random.’” FXB Center for Health & Human Rights. Accessed February 6, 2025. https://fxb.harvard.edu/2024/04/09/press-release-new-study-of-satellite-data-shows-israels-assault-on-hospitals-schools-and-water-infrastructure-in-the-gaza-strip-was-not-random/

Puar, Jasbir K. The Right to Maim: Debility, Capacity, Disability. Durham: Duke University Press, 2017. 

Reiff, Ben. “‘A Mass Assassination Factory’: Inside Israel’s Calculated Bombing of Gaza.” +972 Magazine, April 25, 2024. https://www.972mag.com/mass-assassination-factory-israel-calculated-bombing-gaza/.  

Roy, Sara. “De-Development Revisited: Palestinian Economy and Society Since Oslo.” Journal of Palestine Studies 28, no. 3 (1999): 64–82. https://doi.org/10.2307/2538308.  

The Stream. “The Amputee Crisis in the War on Gaza.” Al Jazeera, July 2, 2024. https://www.aljazeera.com/program/the-stream/2024/7/2/the-amputee-crisis-in-the-war-on-gaza

Endnotes

1. “Factsheet on Persons with Disabilities,” United Nations, accessed February 6, 2025, https://www.un.org/development/desa/disabilities/resources/factsheet-on-persons-with-disabilities.html

2. Al Jazeera, “Why Are So Many Palestinian Prisoners in Israeli Jails?,” Al Jazeera, October 8, 2023, https://www.aljazeera.com/news/2023/10/8/why-are-so-many-palestinian-prisoners-in-israeli-jails.  

3. “Israel/Opt: Horrifying Cases of Torture and Degrading Treatment of Palestinian Detainees amid Spike in Arbitrary Arrests  ,” Amnesty International, November 10, 2023, https://www.amnesty.org/en/latest/news/2023/11/israel-opt-horrifying-cases-of-torture-and-degrading-treatment-of-palestinian-detainees-amid-spike-in-arbitrary-arrests/?utm_source=chatgpt.com.  

4. Kaloti, Rasha. “Palestinian Prisoners and Detainees Lack Basic Access to Health Care in Israeli Prisons.” ImpACT International, September 3, 2020. https://impactpolicies.org/news/165/palestinian-prisoners-and-detainees-lack-basic-access-to-health-care-in-israeli-prisons.  

5. Frantz Fanon, The Wretched of the Earth (New York, NY: Grove Press, 2004), pg 182.

6. Mohammed Omer, “Who Are Israel’s Palestinian Informants?,” Al Jazeera, September 6, 2014, https://www.aljazeera.com/news/2014/9/6/who-are-israels-palestinian-informants.

7.Shatha Hammad, “Stories from the First Intifada: ‘They Broke My Bones,’” Al Jazeera, December 10, 2017, https://www.aljazeera.com/news/2017/12/10/stories-from-the-first-intifada-they-broke-my-bones

8. Palestine Central Bureau of Statistics, 2019, https://www.pcbs.gov.ps/portals/_pcbs/PressRelease/Press_En_3-12-2019-dis-en.pdf

9. Sara Roy, “De-Development Revisited: Palestinian Economy and Society Since Oslo,” Journal of Palestine Studies 28, no. 3 (1999): 64–82, https://doi.org/10.2307/2538308, pg 69.

10. Sara Roy, “De-Development Revisited: Palestinian Economy and Society Since Oslo,” Journal of Palestine Studies 28, no. 3 (1999): 64–82, https://doi.org/10.2307/2538308, pg 70.

نرجو منكم دعمنا إذا كانت لديكم القدرة

شبكة الإعلام الفدائي تعتمد بالكامل على المتطوّعين.

قدّم دعمًا